الإشارة : يقول الحق جل جلاله لخواص أحبابه : إذا دارت الكؤوس بخمرة الملك القدوس ، وتعاطيتم قسمتها بين أرواحكم حتى امتلأت جميع أشباحكم ، وروت منها عروقكم ، وحضر معكم من ليس من أبناء جنسكم ، ممن لا يحل شرب خمرتكم ، فإن كان من أهل المحبة والوداد ، أو من له بكم قرابة واستناد ، فلا تحرموه من شراب خمرتكم ، ولا من نفحات نسمتكم ، فإنكم قوم لا يشقى جليسكم ، فارزقوه من ثمار علومكم ، واسقوه من شراب خمرتكم ، وذكّروه بالله ، وقولوا له ما يدله على الله ، ويوصله إلى حضرة الله ، وهذا هو القول المعروف ، الذي هو بالنصح موصوف.
روى أن أبا هريرة رضي الله عنه نادى فى سوق المدينة : يا معشر التجار ، اذهبوا إلى المسجد ، فإنّ تركة محمد تقسم فيه ، لتأخذوا حقكم منها مع الناس قبل أن تنفد ، فذهب التجّار إلى المسجد النبوي ، فوجدوه معمورا بالناس ، بعضهم يصلى ، وبعضهم يتلو ، وبعضهم يذكر ، وبعضهم يعلم العلم ، فقالوا : يا أبا هريرة ، ليس هنا ما ذكرت من قسم التركة! فقال لهم : (هذه تركة محمد صلىاللهعليهوسلم ، لا ما أنتم عليه من جمع الأموال) أو كما قال رضي الله عنه.
ثم حثّ الأوصياء على الرفق بأولاد الناس ، الذي هم فى حجرهم ، فقال :
(وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٩))
قلت : (لَوْ) ـ هنا ـ شرطية ، تخلص للاستقبال ، وجوابها : (خافُوا) ، وحذف مفعول (لْيَخْشَ) للعموم ، فيصدق بخشية العذاب وخشية العتاب وخشية البعد عن الأحباب ، على حسب حال المخاطبين بهذه الخشية.
يقول الحق جل جلاله للأوصياء الذين فى ولايتهم أولاد الناس : (وَلْيَخْشَ) الذين يتولون يتامى الناس ، فليحفظوا ما لهم ، وليحسنوا تنميته لهم ولا يضيعوه ، وليخافوا عليهم الضيعة ، كما يخافون على أولادهم ، فإنهم لو ماتوا وتركوا (ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ) ، فكما يخافون على أولادهم بعدهم كذلك يخافون على أولاد الناس ، (فَلْيَتَّقُوا اللهَ) فى شأنهم ، وليحفظوا عليهم أموالهم ، وليرفقوا بهم ويلاطفوهم فى الكلام ، كما يحبون أن يلاطف بأولادهم ، (وَلْيَقُولُوا) لهم (قَوْلاً سَدِيداً) أي : عدلا صوابا بالشفقة وحسن الأدب.
وقيل : الخطاب لمن حضر المريض عند الإيصاء فيقولون له : قدم لنفسك ، أعتق ، تصدق ، أعط كذا ، حتى يستغرق ماله ، فنهاهم الحق ـ تعالى ـ عن ذلك ، وقال لهم : كما تخافون الضيعة على أولادكم بعدكم خافوا على أولاد الناس ، فليتقوا الله فى أمر المريض بإعطاء ماله كله ، (وَلْيَقُولُوا) له (قَوْلاً سَدِيداً) : عدلا ، وهو الثلث ، وقيل : للمؤمنين كلهم عند موتهم ، بأن ينظروا للورثة ، فلا يسرفوا فى الوصية بمجاوزة الثلث. والله تعالى أعلم.