الإشارة : إذا حصل المريد على أسرار التوحيد ، وخاض بحار التفريد ، وذاق حلاوة أسرار المعاني ، وغاب عن شهود حس الأوانى ، وحصل له الرسوخ والتمكين فى ذلك ، أيس منه الشيطان وسائر القواطع ، فلا يخشى أحدا إلا الله ، ولا يركن إلى شىء سواه ، وأمن من الرجوع فى الغالب ، إلا لأمر غالب ، (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ). ولذلك قال بعضهم : (والله ما رجع من رجع إلا من الطريق ، وأما من وصل فلا يرجع).
والوصول هو التمكين فيما ذكرنا ، فإذا حصل على كمال المعرفة ، ووقف على عرفة المعارف ، فقد كمل دينه واستقام أمره ، وظهرت أنواره ، وتحققت أسراره ، وما بقي إلا الترقي فى الأسرار أبدا سرمدا ، والسير فى المقامات كسير الشمس فى المنازل ، ينتقل فيها من مقام إلى مقام ، بحسب ما يبرز من عنصر القدرة ، فتارة يبرز معه ما يوجب الخوف ، وتارة ما يوجب الرجاء ، وتارة ما يوجب الرضا والتسليم ، وتارة ما يوجب التوكل ، وهكذا يتلون مع كل مقام ويقوم بحقه ، ولا يقف مع مقام ولا مع حال ، لأنه خليفة الله فى أرضه ، وقد قال تعالى : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) (١) ، وهذا هو التلوين بعد التمكين. والله تعالى أعلم.
ثم استثنى من تلك المحرمات حالة المضطر ، فقال :
(... فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)
قال البيضاوي : هو متصل بذكر المحرمات ، وما بينهما اعتراض مما يوجب التجنب عنها ، وهو أن تناولها فسوق ، وحرمتها من جملة الدين الكامل والنعمة التامة والإسلام المرضى. ه.
يقول الحق جل جلاله : (فَمَنِ اضْطُرَّ) إلى تناول شىء من هذه المحرمات (فِي مَخْمَصَةٍ) أي : مجاعة ، حال كونه (غَيْرَ مُتَجانِفٍ) أي : مائل للإثم وقاصد له ، بأن يأكلها تلذذا أو متجاوزا حد الرخصة ، قيل : هو سد الرمق ، وقال ابن أبى زيد : يأكل منها ويتزود ، فإن استغنى عنها طرحها. ه. فإن تناولها للضرورة (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ) له (رَحِيمٌ) به ؛ حيث أباحها له فى تلك الحالة.
الإشارة : قال بعض الحكماء : الدنيا كلها كالميتة ، لا يحل منها للذاكر إلا قدر الضرورة أكلا وشربا ، وملبسا ومركبا ، حتى يتحقق له الوصول ، فما بقي لأحد حينئذ ما يقول ، وعلامة الوصول : هو الاكتفاء بالله دون الاحتياج لشىء سواه ، إن افتقر اغتنى فى فقره ، وإن ذل عز فى ذله ، وإن فقد وجد فى فقده ، وهكذا فى تقلبات الأحوال لا يتضعضع ولا يتزلزل ، ولو سقطت السماء على الأرض. والله تعالى أعلم.
ولمّا ذكر ما حرّم عليهم ؛ ذكر ما أحل لهم ، فقال :
__________________
(١) من الآية / ٢٩ من سورة الرحمن.