وما قاله الشيخ الطوسي رحمهالله من أنّ قوله تعالى : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) (١) من المتشابه غير صحيح ، فالآية نزلت ردّا على اليهود أو قريش ـ على خلاف في الرواية ـ كما ذكر السيّد المرتضى ، وبيّنه الطوسي نفسه (٢) ، وسبقهم إلى ذلك القاضي عبد الجبّار في كتابه «تنزيه القرآن عن المطاعن» (٣) فلا تعلّق للآية بأفعال العباد ، وإنّما هي مخصوصة بما يقدّره الله تعالى عليهم من الخير والضرّ. وهي محكمة وليست متشابهة. وللقاضي عبد الجبّار ملاحظة ذكية تؤكّد هذا المعنى. وهي أنّ قوله تعالى : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ)، لو كان متعلّقا بخلق أفعال العباد ، لادعت العرب بتناقض القرآن ، لأنّ الله تعالى يقول في آية أخرى : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) (٤). وإنّما عدلوا عن ذلك ، لأنّ المراد بالأوّل المصائب والأمراض ، وبالثاني المعاصي (٥).
ويقف السيّد المرتضى عند قوله تعالى : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (٦). وفي كشفه عن دلالة لفظة «القريب» يقول : «أنّه تعالى لم يرد بقوله : «قريب» من قرب المسافة ؛ بل أراد أنني قريب بإجابتي ومعونتي ونعمتي ، أو بعلمي بما يأتي العبد ويذر ، وما يسرّ ويجهر ، تشبيها بقرب المسافة ؛ لأنّ من قرب من غيره عرف أحواله ولم تخف عليه ... وقد روى أنّ قوما سألوا الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم فقالوا له : أربّنا قريب فنناجيه ، أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية (٧). وفي موضع آخر يقول : «والعرب تضع كثيرا لفظة القرب على غير معنى المسافة ؛ فيقولون : فلان أقرب إلى قلبي من فلان ، وزيد منّي قريب ، وعمرو منّي بعيد ؛ ولا يريدون المسافة» (٨).
وهكذا يتّضح لنا أنّ الاكتفاء بظاهر اللفظ وما يحمله من دلالات بمعزل عن
__________________
(١) سورة النساء ، الآية : ٧٨.
(٢) ينظر التبيان ، ٣ : ٢٦٤ ، ومنهج الطوسي في تفسير القرآن : ٢١٠.
(٣) ينظر تنزيه القرآن عن المطاعن : ٩٤.
(٤) سورة النساء ، الآية : ٧٩.
(٥) ينظر تنزيه القرآن عن المطاعن : ٩٤.
(٦) سورة البقرة ، الآية : ١٨٦.
(٧) أمالي المرتضى ، ١ : ٦٠٣.
(٨) نفسه : ١ : ٥٢٧.