بالأبصار من حيث نفي الرؤية نفيا عاما بقوله تعالى : (لَنْ تَرانِي) ؛ ثمّ أكدّ ذلك بأن علّق الرؤية باستقرار الجبل الذي علمنا أنّه لم يستقرّ. وهذه طريقة للعرب معروفة في تبعيد الشيء ؛ لأنّهم يعلّقونه بما يعلم أنّه لا يكون ؛ كقولهم : لا كلّمتك ما أضاء الفجر ، وطلعت الشمس ؛ وكقول الشاعر :
إذا شاب الغراب رجوت أهلي |
|
وصار القير كاللبن الحليب |
وممّا يجري هذا المجرى قوله تعالى : (وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) (١) (٢).
وليس لاحد أن يقول : إذا علّق الرؤية باستقرار الجبل ؛ وكان ذلك في مقدوره ، فيجب أن تكون الرؤية معلّقة به أيضا في مقدوره ؛ بأنّه لو كان الغرض بذلك التبعيد لعلّقه بأمر يستحيل ، كما علّق دخولهم الجنّة بأمر مستحيل ؛ من ولوج الجمل في سمّ الخياط ؛ وذلك أنّ تشبيه الشيء بغيره لا يجب أن يكون من جميع الوجوه ؛ ولمّا علّق وقوع الرؤية باستقرار الجبل ـ وقد علم أنّه لا يستقرّ ـ علم نفي الرؤية. وما عدا ذلك من كون الرؤية مستحيلة وغير مقدورة ، واستقرار الجبل بخلافها يخرج عن ما هو الغرض في التشبيه على أنّه إنّما علّق تعالى جواز الرؤية باستقرار الجبل في تلك الحال التي جعله فيها دكّا ، وذلك محال لما فيه من اجتماع الضدّين ، فجرى مجرى جواز الرؤية في الاستحالة. وليس يجب في كلّ ما علّق بغيره أن يجري مجراه في سائر وجوهه ؛ حتى إذا كان أحدهما مع انتفائه مستحيلا كان الآخر بمثابته ؛ لأنّ تعلّق دخول الكفار الجنّة إنّما علّق بولوج الجمل في سمّ الخياط ؛ وولوج الجمل في سمّ الخياط مستحيل ، بل معلوم أنّ الأوّل في المقدور وإن كان لا يحسن والثاني ليس فيه المقدور. وهذه الجملة كافية في تأويل هذه الآية وبيان ما فيها والحمد لله (٣).
__________________
(١) سورة الأعراف ، الآية : ٤٠.
(٢) استشهد بهذه الآية في مواضع من كتبه للتعليق بما لا يقع على سبيل التبعيد ، انظر. تنزيه الأنبياء والأئمّة : ١٨٠ والأمالي ، ١ : ٨٠.
(٣) الأمالي ، ٢ : ١٨٥ وراجع أيضا تنزيه الأنبياء والأئمّة : ١١١ و ١٧٨ والملخص في أصول الدين ، ٢ : ٢٦٤.