ذاقوها وقيل سوى الموتة الأولى وقد بيّنا ما عندنا فيه (وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) أي فصرف عنهم عذاب النار. استدلّت المعتزلة بهذا على انّ الفاسق الملّي لا يخرج من النار لأنّه يكون قد وقي النار والجواب عن ذلك ان هذه الآية يجوز أن تكون مختصة بمن لا يستحق دخول النار فلا يدخلها أو بمن استحق النار فتفضل عليه بالعفو فلم يدخلها ويجوز أن يكون المراد ووقاهم عذاب الجحيم على وجه التأبيد أو على الوجه الذي يعذّب عليه الكفار (فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ) أي فعل الله ذلك بهم تفضّلا منه لأنّه سبحانه خلقهم ، وأنعم عليهم ، وركّب فيهم العقل وكلّفهم ، وبيّن لهم من الآيات ما استدلّوا به على وحدانيّة الله تعالى ، وحسن الطاعات ، فاستحقوا به النعم العظيمة (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي الظفر بالمطلوب العظيم الشأن (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ) أي سهّلنا القرآن معناه : جعلنا القرآن عربيا ليسهل عليك وعلى قومك تفهّمه (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أي ليتذكروا ما فيه من الأمر والنهي ، والوعد والوعيد ، ويتفكّروا فيه (فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ) أي فإن أعرضوا ولم يقبلوا فانتظر مجيء ما وعدناك به إنهم منتظرون ، لأنّهم في حكم من ينتظر ، لأنّ المحسن يترقب عاقبة الإحسان ، والمسيء يترقّب عاقبة الإساءة ، وقيل معناه : انتظر بهم عذاب الله فإنّهم ينتظرون بك الدوائر.
سورة الجاثية
مكية وعدد آياتها سبع وثلاثون آية
لما ختم الله سبحانه سورة الدخان بذكر القرآن افتتح هذه لسورة بذكره أيضا.
١ ـ ٥ ـ (حم) قد بيّنا ما قيل فيه ، وأجود الأقوال انه اسم للسورة ، قال عليّ بن عيسى : وفي تسمية السورة بحم دلالة على ان هذا القرآن المعجز كلّه من حروف المعجم ، لأنّه سمّي به ليدلّ عليه بأوصافه ، ومن أوصافه انه معجز ، وانّه مفصّل قد فصّلت كلّ سورة من اختها ، وانّه هدى ونور ، فكأنّه قيل : هذا اسمه الدالّ عليه بأوصافه (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ) أضاف التنزيل إلى نفسه في مواضع من السور استفتاحا بتعظيم شأنه ، وتفخيم قدره بإضافته إلى نفسه من أكرم الوجوه وأجلّها ، وما اقتضى هذا المعنى لم يكن تكريرا فقد يقول القائل : اللهم اغفر لي ، اللهم ارحمني ، اللهمّ عافني ، اللهمّ وسّع عليّ في رزقي ، فيأتي بما يؤذن أنّ تعظيمه لربّه منعقد بكل ما يدعو به وقوله (مِنَ اللهِ) يدلّ على انّ ابتداءه من الله تعالى (الْعَزِيزِ) أي القادر الذي لا يغالب (الْحَكِيمِ) العالم الذي أفعاله كلّها حكمة وصواب (إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ) الذين يصدّقون بالله وبأنبيائه لأنّهم المنتفعون بالآيات ، وهي الدلالات والحجج الدالّة على انّ لها مدبّرا صانعا قادرا عالما (وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ) معناه وفي خلقه إيّاكم بما فيكم من بدائع الصنعة ، وعجائب الخلقة ، وما يتعاقب عليكم من الأحوال من مبتدأ خلقكم في بطون الأمّهات إلى انقضاء الآجال ، وفي خلق ما يفرّق على وجه الأرض من الحيوانات على اختلاف أجناسها ومنافعها ، والمقاصد المطلوبة منها ، دلالات واضحات على ما ذكرناه (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) أي يطلبون علم اليقين بالتدبّر والتفكر (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي وفي ذهاب الليل والنهار ومجيئهما على وتيرة واحدة ، وقيل معناه : وفي اختلاف حالهما من الطول والقصر ، وقيل : اختلافهما من أنّ أحدهما نور ، والآخر ظلمة (وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ) أراد به المطر الذي ينبت به النبات الذي هو رزق الخلائق فسمّاه رزقا لأنّه سبب الرزق (فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ