بقوله : (فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) (١) ، (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) (٢) ، (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ ...) (٣) الآية ، وبقوله : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ ...) (٤) الآية. وذلك حين يظهر الحق ، ويزهق الباطل ، كما قال : (وَقُلْ جاءَ الْحَقُ) أي : الإسلام أو الوحى ، (وَزَهَقَ الْباطِلُ) ؛ ذهب ، وهلك الكفر والشرك ، وتسويلات الشيطان ؛ (إِنَّ الْباطِلَ) كائنا ما (كانَ زَهُوقاً) أي : شأنه أن يكون مضمحلا غير ثابت. وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم دخل مكّة يوم الفتح ، وحول البيت ثلاثمائة وستّون صنما ، فجعل يطعن بمخصرة (٥) كانت بيده فى عين كل واحد ، ويقول : جاء الحقّ وزهق الباطل ، فينكبّ لوجهه ، حتّى ألقى جميعها ، وبقي صنم خزاعة فوق الكعبة ، وكان من صفر ، (٦) فقال : يا علىّ ، ارم به ؛ فصعد إليه ، ورمى به ، فكسره (٧). ه.
الإشارة : إذا تمكن العارفون من شهود حضرة القدس ومحل الأنس ، وصارت معشش قلوبهم ؛ كان نزولهم إلى سماء الحقوق وأرض الحظوظ بالإذن والتمكين ، والرسوخ فى اليقين. فلم ينزلوا إلى سماء الحقوق بسوء الأدب والغفلة ، ولا إلى أرض الحظوظ بالشهوة والمتعة ، بل دخلوا فى ذلك بالله ولله ، ومن الله وإلى الله ، كما فى الحكم. ثم قال : (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ) ؛ ليكون نظرى إلى حولك وقوتك إذا أدخلتنى ، وانقيادي إليك إذا أخرجتنى. (وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً) ينصرنى ولا ينصر علىّ ، ينصرنى على شهود نفسى ، حتى أغيب عنها وعن متعتها وهواها ، ويفنينى عن دائرة حسى ، حتى تتسع علىّ دائرة المعاني عندى ، وأفضى إلى فضاء الشهود والعيان ، فحينئذ يزهق الباطل ، وهو ما سوى الله ، ويجىء الحق ، وهو وجود الحق وحده ، فأقول حينئذ : (وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) ، وإنما أثبته الوهم والجهل ، وإلا فلا ثبوت له ؛ ابتداء وانتهاء.
وثبوت الوهم والجهل فى القلب : مرض من الأمراض ، وشفاؤه فى التمسك بما جاء به القرآن العظيم ، كما قال تعالى :
(وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (٨٢))
__________________
(١) من الآية ٥٦ من سورة المائدة.
(٢) من الآية ٣٣ من سورة التوبة.
(٣) من الآية ٥٥ من سورة النور.
(٤) الآيتان : ١٧١ ـ ١٧٢ من سورة الصافات.
(٥) المخصرة : ما يختصره الإنسان بيده ، فيمسكه ؛ من عصا ونحوها ... انظر : مختار الصحاح ، (خصر).
(٦) أي : من نحاس.
(٧) أخرجه البخاري فى (التفسير ، سورة الإسراء) ، ومسلم فى (الجهاد ، باب فتح مكة).