يقول الحق جل جلاله : (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ) : نجمعهم (إِلَى الرَّحْمنِ) أي : إلى ربهم يغمرهم برحمته الواسعة ، (وَفْداً) : وافدين عليه ، كما يفد الوفود على الملوك ، منتظرين لكرامتهم وإنعامهم. وعن على كرم الله وجهه : (لما نزلت هذه الآية ، قلت : يا رسول الله ، إنى قد رأيت الملوك ووفودهم ، فلم أر وفدا إلا راكبا ، فما وفد الله؟ قال : «يا على ؛ إذا حان المنصرف من بين يدى الله ، تلقت الملائكة المؤمنين بنوق بيض ، رحالها وأزمّتها الذهب ، على كل مركب حلة لا تساويها الدنيا ، فيلبس كل مؤمن حلة ، ثم يستوون على مراكبهم ، فتهوى بهم النوق حتى تنتهى بهم إلى الجنة ، فتتلقاهم الملائكة (سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ)».
(وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ) كما تساق البهائم (إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً) : عطاشا ، فإن من يرد الماء لا يرده إلا للعطش ، أو كالدواب التي ترد الماء ، أي : يوم نحشر الفريقين نفعل ما نفعل مما لا يفى به نطاق العبارة ، لما يقع فيه من الدواهي الطامة ، أو الكرائم العامة ، أو : اذكر يوم نحشر الفريقين ، على طريق الترغيب والترهيب.
وقوله تعالى : (لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ) : استئناف مبين لما فيه من الأمور الدالة على هوله ، وضمير الواو : إما لجميع العباد المدلول عليهم بذكر الفريقين لانحصارهم فيها ، أو إلى المتقين فقط ، أو إلى المجرمين.
و (مَنِ اتَّخَذَ) : منصوب على الاستثناء ، أو بدل من الواو ، أي : لا يملك العباد أن يشفعوا لغيرهم إلا من استعد له بالتحلي بالإيمان والتقوى ، ففيه ترغيب للعباد فى تحصيل الإيمان والتقوى ، المؤدى إلى نيل هذه الرتبة العليا. أولا يملك المتقون الشفاعة إلا شفاعة من اتخذ العهد بالإسلام والعمل الصالح ، أو لا يملك المجرمون أن يشفع لهم إلا من كان منهم مسلما ، فيشفع فى مثله. فمن ، على هذا الثالث ، بدل من الواو فقط. والأول أحسن ؛ لعمومه.
قال ابن مسعود رضي الله عنه : سمعت النبي صلىاللهعليهوسلم يقول : «أما يعجز أحدكم أن يتّخذ كلّ صباح ومساء عهدا عند الله ، يقول كلّ صباح ومساء : اللهمّ فاطر السموات والأرض ، عالم الغيب والشّهادة ، إنّى أعهد إليك فى هذه الحياة الدنيا ، بأنى أشهد أن لا إله إلّا أنت ، وحدك لا شريك لك ، وأنّ محمّدا عبدك ورسولك ، فلا تكلنى إلى نفسى ، فإنك إن تكلنى إلى نفسى تقرّبنى من الشرّ وتباعدني من الخير ، وإنّى لا أثق إلّا برحمتك ، فاجعل لى عندك عهدا توفّينيه يوم القيامة ، إنّك لا تخلف الميعاد. فإذا قال ذلك طبع عليه طابع ووضع تحت العرش ، فإذا كان يوم القيامة نادى مناد : أين الذين لهم عند الله عهد فيدخلون الجنّة». ه.
الإشارة : ورود العباد على الله يوم القيامة يكون على قدر ورودهم إليه اليوم فى الدنيا ، فبقدر التوجه إليه اليوم تعظم كرامة وروده فى الآخرة ، فمن ورد على الله تعالى من باب الطاعة الظاهرة حملته صور الطاعات إلى الآخرة ، ومن ورد من باب الطاعات القلبية حملته الأنوار إلى الفراديس العالية ، ومن ورد من باب الطاعات