المنبئ عن كمال السخط وشدة الغضب ، المفصح عن غاية التشنيع والتقبيح ، وتسجيل عليهم بغاية الوقاحة والجهل. و (جاء) يستعمل بمعنى فعل ، فيتعدى تعديته ، والإد ـ بكسر الهمزة وفتحها ، وقرئ بهما فى الشاذ ـ : العظيم المنكر ، الإدّ : الشدة ، قيل : الأدّ : فى كلام العرب : أعظم الدواهي.
ثم وصفه وبيّن هوله فقال : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ) : يتشققن مرة بعد أخرى ، من عظم ذلك الأمر وشدة هوله ، وهو أبلغ من «ينفطرن» كما قرئ به ، (وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ) أي : وتكاد تنشق وتذهب ، (وَتَخِرُّ الْجِبالُ) أي : تسقط وتنهدم (هَدًّا) بحيث لا يبقى لها أثر. والمعنى : أن هول تلك الكلمة الشنعاء وعظمها ، بحيث لو تصورت بصورة محسوسة ، لم يطق سمعها تلك الأجرام العظام ، ولتفتتت من شدة قبحها ، أو : إن فظاعتها واستجلاب الغضب والسخط بها بحيث لو لا حلمه تعالى ، لخر العالم وتبددت قوائمه ، غضبا على من تفوه بها. قال محمد بن كعب : كاد أعداء الله أن يقيموا علينا الساعة ، يعنى : لأن ما ذكر أوصاف الساعة.
وذلك (أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً) أي : تكاد تنفطر السموات وتنشق الأرض ، وتنهدم الجبال ؛ لأجل أن دعوا ، أي : نسبوا أو سموا للرحمن ولدا ، (وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) أي : قالوا اتخذ الرحمن ولدا ، أو دعوا له ولدا ، والحال أنه مما لا يليق به تعالى اتخاذ الولد ؛ لاستحالته عليه تعالى. ووضع الرحمن موضع الضمير ؛ للإشعار بعلية الحكم ؛ لأن كل ما سواه تعالى منعّم عليه برحمته ، أو نعمة من أثر الرحمة ، فكيف يتصور أن يجانس من هو مبدأ النعم ومولى أصولها وفروعها ، حتى يتوهم أن يتخذه ولدا ، وقد صرح به قوله عز قائلا : (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : ما منهم من أحد من الملائكة أو الثقلين (إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) ؛ مملوكا لله فى الحال بالانقياد وقهرية العبودية. (لَقَدْ أَحْصاهُمْ) أي : حصرهم وأحاط بهم ، بحيث لا يخرج أحد من حيطة علمه ، وقبضة قدرته وقهريته ، ما وجد منهم وما سيوجد ، وما يقدر وجوده لو وجد ، كل ذلك فى علمه وقضائه وقدره وتدبيره ، لا خروج لشىء عنه ، وفى ذلك تصوير لقيام ربوبيته على كل شىء ، وأنه عالم بكل شىء ، جملة وتفصيلا ، (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) أي : وكل واحد منهم يأتى يوم القيامة فردا من الأموال والأنصار والأتباع ، متفردا بعمله ، فإذا كان شأنه تعالى وشأنهم كذلك فأنى يتوهم احتمال أن يتخذ شيئا منهم ولدا؟!.
وفى الحديث القدسي : «قال الله تعالى : كذّبنى عبدى ، ولم يكن له ذلك ، وشتمنى عبدى ولم يكن له ذلك ، أما تكذيبه إياى ؛ فأن يقول : من يعيدنا كما بدأنا؟ وأما شتمه إياى ؛ فأن يقول : اتخذ الله ولدا ، وأنا الأحد الصمد ، لم ألد ولم أولد ، ولم يكن لى كفوا أحد» (١). وهو فى البخاري. وفى صيغة اسم الفاعل فى قوله : (آتِيهِ) من الدلالة على إتيانهم كذلك البتة ما ليس فى صيغة المضارع لو قيل يأتيه. والله تعالى أعلم.
__________________
(١) الحديث أخرجه البخاري (فى تفسير سورة الإخلاص) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.