الإشارة : إذا علمت أيها المؤمن أن الحق جل جلاله يغضب هذا الغضب الكلى على من أشرك مع الله ، أو اعتقد فيه ما ليس هو عليه من التنزيه وكمال الكمال ، فينبغى لك أن تخلص مشرب توحيدك من الشرك الجلى والخفي ، علما وعقدا وحالا وذوقا ، حتى لا يبقى فى قلبك محبة لشىء من الأشياء ولا خوف من شىء ، ولا تعلق بشىء ، ولا ركون لشىء ، إلا لمولاك ، وحينئذ يصفى مشرب توحيدك ، وتكون عبدا لله خالصا حرا مما سواه ، ومهما بقي فيك شىء من محبة الهوى نقص توحيدك بقدره ، ولم تصل إليه مادمت تميل إلى شىء سواه. وفى ذلك يقول الششترى رضي الله عنه :
إن ترد وصلنا فموتك شرط |
|
لا ينال الوصال من فيه فضله |
فكن عبدا لله حقيقة ، وانخرط فى سلك قوله : (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً). فحينئذ تكون حرا مما سواه ، ويملك الوجود بأسره ، يكون عند أمرك ونهيك. وفى ذلك يقول القائل :
دعونى لملكهم فلما أجبتهم |
|
قالوا دعوناك للملك لا للملك |
وإذا فتحت عين القدرة وعين الحكمة وضعت كل شىء فى محله ، فتتنزه بعين القدرة فى رياض الملكوت وبحار الجبروت ، وتتنزه بعين الحكمة فى بهجة الملك وأسرار الحكمة. فعين القدرة تقول : كل من فى السموات والأرض نور من أنوار الرحمن ، وسر من أسرار ذاته ، وعين الحكمة تقول : كل من فى السموات والأرض عبد مملوك تحت قهرية ذاته ، فاعرف الضدين ، وأنزل كل واحد فى محله ، تكن عارفا بالله ، فإن أردت أن تعرفه بضد واحد بقيت جاهلا به. فالحكمة تثبت العبودية صورة ؛ صونا لكنز الربوبية ، والقدرة تغيبك عنها بشهود أسرار الربوبية ، وفى الحكم : «سبحان من ستر سر الخصوصية بظهور وصف البشرية ، وظهر بعظمة الربوبية فى إظهار العبودية».
فالعبودية لازمة من حيث العبد ، والغيبة عنها واجبة من حيث الرب ، فإثبات العبودية ، حكمة ، فرق ، والغيبة عنها فى شهود أنوار الربوبية : جمع ، فالعارف مجموع فى فرقه ، مفروق فى جمعه.
ولما ذكر قبائح الكفرة أتبعه بذكر محاسن المؤمنين ، فقال :
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (٩٦))
قلت : لما استحقر الكفرة أحوال المؤمنين حتى قالوا : (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا) ، أخبر الله تعالى المؤمنين وبشرهم أنهم سيعزهم ويلقى مودتهم فى قلوب عباده.
يقول الحق جل جلاله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ) فى قلوب الناس مودة وعطفا ، حتى يحبهم كل من سمع بهم ، فيحبهم ويحببهم إلى عباده من أهل السموات والأرض ، أي : سيحدث