يقول الحق جل جلاله : (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى) ، إنما سأله ؛ ليريه عظيم ما يفعل بها ؛ من قلبها حية ، فمعنى السؤال : تقريره على أنها عصى ، ليتبين له الفرق بين حالها قبل قلبها وبعده ، وقيل : إنما سأله ليؤنسه وينبسط معه ، فأجابه بقوله : (هِيَ عَصايَ) ، نسبها لنفسه تحقيقا لوجه كونها بيمينه ، روى أنها كانت عصا آدم عليهالسلام ، فأعطاها له شعيب ، حين قدمه لرعى غنمه ، على ما يأتى فى سورة القصص. وكان فى رأسها شعبتان ، وفى أسفلها سنان ، واسمها نبعة ، فى قول مقاتل (١).
(أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها) أي : أعتمد عليها إذا مشيت ، وعند الإعياء ، والوقوف على رأس قطيع الغنم ، (وَأَهُشُ) أي : أخبط (بِها) الورق من الشجر ؛ ليسقط (عَلى غَنَمِي) فتأكله. وقرئ بالسين ، وهو زجر الغنم ، تقول العرب : هس هس ، فى زجرها ، وعداه بعلى ؛ لتضمنه معنى الإقبال والتوجه. (وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى) أي : حاجات أخرى من هذا الباب. قال ابن عباس : كان موسى عليهالسلام يحمل عليها زاده وسقاءه ، فجعلت تأتيه وتحرسه ، ويضرب بها الأرض فتخرج ما يأكل يومه ، ويركز بها فيخرج الماء ، فإذا رفعها ذهب ، وكان يرد بها عن غنمه ونعمه الهوام بإذن الله ، وإذا ظهر له عدو حاربت وناضلت عنه ، وإذا أراد الاستسقاء من البئر أدلاها ، فطالت على طول البئر وصارت شعبتاها كالدلو فيستقى بها ، وكان يظهر على شعبتيها كالشمعتين بالليل فيستضيئ بها ، وإذا اشتهى ثمرة ركزها فتغصّنت غصن تلك الشجرة وأورقت وأثمرت. فهذه المآرب (٢).
وكأنه عليهالسلام فهم أن المقصود من السؤال بيان حقيقتها ، وتفصيل منافعها بطريق الاستقصاء ، فلذلك أطنب فى كلامه ، فلما بدت منها خوارق بديعة علم أنها آية باهرة ومعجزات قاهرة ، وأيضا : الإطناب فى مناجاة الأحباب محمود.
(قالَ) له تعالى : (أَلْقِها يا مُوسى) لترى من شأنها ما لم يخطر ببالك ، قيل : إنما أمر بإلقائها ؛ قطعا للسكون إليها ، لما كان فيها من المآرب ، وبالغ الحق تعالى فى ذلك بقلبها حية ، حتى خاف منها ، وحين قطعه عنها ، وأخرجها من قلبه ، بالفرار منها ردها إليه بقوله : (خُذْها وَلا تَخَفْ) ؛ (فَأَلْقاها) على الأرض (فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى) ، روى أنه عليهالسلام ألقاها فانقلبت حية صفراء ، فى غلظ العصا ، ثم انتفخت وعظمت ، فلذلك شبهت بالجان تارة ، وبالثعبان مرة أخرى ، وعبّر عنها هنا بالاسم العام للحالين ، وقيل : انقلبت من أول الأمر ثعبانا ، وهو أليق بالمقام ، كما يفصح عنه قوله عزوجل : (فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) (٣) ، وإنما سميت بالجان فى الجلادة وسرعة المشي ، لا فى صغر الجثة. وقيل : الجان عبارة عن ابتداء حالها ، والثعبان عن انتهائه.
__________________
(١) انظر تفسير البغوي (٥ / ٢٦٨).
(٢) قال الحافظ ابن كثير عن هذه المآرب : الظاهر أنها ـ أي : العصا ـ لم تكن كذلك ، ولو كانت كذلك لما استنكر موسى عليهالسلام صيرورتها ثعبانا ، فما كان يفرّ منها هاربا ، ولكن كل ذلك من الأخبار الإسرائيلية ، انظر : تفسير ابن كثير (٣ / ١٤٥).
(٣) من الآية ١٠٧ من سورة الأعراف