أحلام وأباطيلها ، فهو أشبه شىء بالهذيان ، ثم أضربوا عنه ، وقالوا : (بَلِ افْتَراهُ) من تلقاء نفسه ، من غير أن يكون له أصل أو شبهة أصل. ثم قالوا : (بَلْ هُوَ شاعِرٌ) ، وما أتى به شعر يخيل إلى السامع ، لا حقيقة لها. وهكذا شأن المبطل المحجوج ، متحير ، لا يزال يتردد بين باطل وأبطل ، ويتذبذب بين فاسد وأفسد.
فالإضراب الأول ، كما ترى ، من جهته تعالى ، والثاني والثالث من قبلهم. وقد قيل : الكل من قبلهم ، حيث أضربوا عن قولهم : هو سحر ، إلى أنه تخاليط أحلام ، ثم إلى أنه كلام مفترى ، ثم إلى أنه قول شاعر ، وهو بعيد ؛ لأنه لو كان كذلك لقال : قالوا : بل أضغاث أحلام ... إلخ.
ثم قالوا : (فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ) ؛ وهو جواب عن شرط محذوف ، يفصح عنه السياق ، كأنه قيل : وإن لم يكن كما قلنا ، بل كان رسولا من الله تعالى ، فليأتنا بمعجزة ظاهرة (كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) أي : مثل الآية التي أرسل بها الأولون ؛ كاليد ، والعصا ، والناقة وشبه ذلك. فالكاف : صفة لمصدر محذوف ، أي : إتيانا مثل إتيان الأولين.
قال تعالى : (ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) أي : أهلكنا أهلها ، (أَفَهُمْ) أي : هؤلاء المقترحون عليك الآيات ، (يُؤْمِنُونَ) أي : قد اقترحت الأمم السالفة الآيات على رسلها ، فأعطوا ما اقترحوا ، فلم يؤمنوا ، فأهلكناهم ، فكيف يؤمن هؤلاء ، وهم أعتى منهم؟ فالهمزة : لإنكار الوقوع ، والفاء : للعطف على مقدر ، فأفادت إنكار وقوع إيمانهم. والمعنى : لم تؤمن أمة من الأمم المهلكة عند إعطاء ما اقترحوه من الآيات ، أهم لم يؤمنوا ، فهؤلاء يؤمنون ، لو أجيبوا إلى ما سألوا وأعطوا ما اقترحوه ، مع كونهم أعتى منهم وأطغى؟ فهم فى اقتراح الآيات كالباحث على حتفه فطلبه ، وفى ترك إجابتهم إبقاء عليهم ، كيف لا ، ولو أعطوا ما اقترحوا ، مع عدم إيمانهم قطعا ، لوجب استئصالهم ، بجريان سنّة الله تعالى فى الأمم السالفة أن المقترحين ، إذا أعطوا ما اقترحوا ، فلم يؤمنوا ، نزل بهم عذاب الاستئصال لا محالة ، وقد سبقت كلمة الحق منه تعالى أن هؤلاء لا يعذبون بعذاب الاستئصال ، فلذلك لم يظهر لهم ما اقترحوا من الآيات. والله تعالى أعلم.
الإشارة : العلماء بالله ، الداعون إلى الله ، هم ورثة الأنبياء والرسل ، فما قيل فى الأصل قد قيل فى الفرع ، فكل عصر يوجد من ينكر على خواص ذلك العصر ، ويرميهم بالسحر والجنون. والافتراء على الله سنة ماضية. غير أن أولياء هذه الأمة على قدم نبيهم ، رحمة للعالمين ، فمن آذاهم لا يعاجل بالعقوبة فى الغالب ، وقد تكون باطنية ، كقسوة القلوب ، والخذلان ، والشكوك ، والأوهام. وهذا الوصف فى العارفين الكلمة ، وأما الزهاد والعباد والصالحون : فمن آذاهم عوجل بالعقوبة فى الغالب ؛ لنقص كمالهم ، وعدم اتساع دائرة معرفتهم. وبالله التوفيق.