لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ) أي : ما أدرى لعل تأخير العذاب عنكم فى الدنيا امتحان لكم ؛ لينظر كيف تعملون ، أو استدراج لكم ، وزيادة فى افتتانكم ، (وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) أي : تمتع لكم إلى حين موتكم ؛ ليكون حجة عليكم ، أو إلى أجل مقدر تقتضيه المشيئة المبنية على الحكم البالغة.
(قالَ) (١) (رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ) أي : اقض بيننا وبين كفار مكة بالعدل ، المقتضى لتعجيل العذاب. فهو كقول شعيب عليهالسلام : (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِ) (٢) ، أو بما يحق عليهم من العذاب ، واشدد عليهم ، كقوله صلىاللهعليهوسلم : «اللهمّ اشدد وطأتك على مضر» (٣) ، وقد استجيب دعاؤه ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، حيث عذبوا ببدر أىّ تعذيب. وقرأ الكسائي وحفص : (قالَ) ؛ حكاية لدعائه صلىاللهعليهوسلم. ثم استعان بالله على إبطال ما كانوا يؤملون من النصرة لهم ، وتكذيبهم فى ذلك ، فقال : (وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ) ؛ كثير الرحمة على عباده ، (الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) من كون الغلبة لكم. كانوا يصفون الحال على خلاف ما جرت عليه ، وكانوا يطمعون أن تكون الشوكة والغلبة لهم ، فكذب الله ظنونهم ، وخيّب آمالهم ، وغيّر أحوالهم ، ونصر رسوله صلىاللهعليهوسلم عليهم ، وخذلهم ؛ لكفرهم. وبالله التوفيق.
الإشارة : قال الشيخ أبو العباس المرسى رضى الله عنه : الأنبياء ـ عليهمالسلام ـ خلقوا من الرحمة ، ونبينا صلىاللهعليهوسلم هو عين الرحمة ، قال تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ). ه. وقال أيضا : الأنبياء ـ عليهمالسلام ـ لأممهم صدقة ، ونبينا صلىاللهعليهوسلم لنا هدية. قال صلىاللهعليهوسلم : «وأنا النعمة المهداة» ، فالصدقة للفقراء ، والهدية للكبراء. ثم إن غاية الرحمة : الوصول إلى التوحيد الخاص ؛ لأنه سبب الزلفى من الله والاختصاص ، ولذلك أمره به ، بعد أن جعله رحمة ، فقال : (قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ...) إلخ. فمن أعرض عنه فقد أوذن بالبعد والطرد. ولعل تأخير العقوبة عنه ، فى الدنيا ، استدراج ومتاع إلى حين.
ثم إن الصارف عن الدخول إلى التوحيد الخاص ـ وهو توحيد العيان ـ : القواطع الأربع : النفس ، والشيطان ، والدنيا ، والهوى. زاد بعضهم : الناس ـ أي : عوام الناس ، فإذا حكم الله بين العبد وبين هذه القواطع ، وصل إلى صريح المعرفة. (قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ) ؛ أي : احكم بينى وبين عدوى بحكمك الحق ، حتى تدفعه عنى وتدمغه ، (وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ) به (عَلى ما تَصِفُونَ) من التعويق والتشغيب. والله المستعان ، وعليه أتوكل ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
__________________
(١) قرأ حفص (قال) بصيغة الماضي ـ وقرأ الباقون (قل) ، انظر الإتحاف (٢ / ٢٦٨).
(٢) من الآية ٨٩ من سورة الأعراف.
(٣) جزء من حديث أخرجه البخاري فى (الدعوات ، باب الدعاء على المشركين بالهزيمة) ، ومسلم فى (المساجد ، باب استحباب القنوت فى جميع الصلاة) عن أبى هريرة رضى الله عنه.