ثم ذكر دليلا آخر على قدرته ، فقال :
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (٦٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٦٥))
قلت : (فتصبح) : عطف على «أنزل» ، والعطف بالفاء أغنى عن الضمير ، وإيثار صيغة الاستقبال ؛ للإشعار بتجدد أثر الإنزال ، وهو الاخضرار واستمراره ، أو لاستحضار صورة الاخضرار ، وإنما لم ينصب جوابا للاستفهام ؛ لأنه لو نصب لبطل الغرض ؛ لأن معناه فى الرفع إثبات الاخضرار ، فينقلب فى النصب إلى نفيه ، كما تقول لصاحبك : ألم تر أنى أنعمت عليك فتشكر ، إن نصبته نفيت شكره ، وشكوت من تفريطه ، وإن رفعته أثبت شكره.
يقول الحق جل جلاله : (أَلَمْ تَرَ) يا محمد ، أو يا من يسمع ، (أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) ؛ مطرا (فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) بالنبات ، بعد ما كانت مسودة يابسة ، (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ) بعباده ، أو فى ذاته لا يدرك ، (خَبِيرٌ) بمصالح خلقه ومنافعهم ، أو اللطيف المختص بدقائق التدبير ، الخبير بكل جليل وحقير ، قليل وكثير. (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ؛ ملكا وملكا ، قد أحاط بهم ؛ قدرة وعلما ، (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُ) عن كل شىء ، المفتقر إليه كل شىء ، (الْحَمِيدُ) : المحمود بنعمته ، قبل ثناء من فى السموات والأرض عليه ، أو المستحق للحمد ، أعطى أو لم يعط.
ثم ذكر موجب الحمد من عباده ، فقال : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ) من الأنعام ؛ لتأكلوا منها ، ومن البهائم ؛ لتركبوها فى البر ، (وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) : بقدرته وإذنه ، أي : وسخر لكم المراكب حال كونها جارية فى البحر بإذنه ، (وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ) أي : يحفظها من السقوط ، بأن خلقها على هيئة متداعية إلى الاستمساك ، (إِلَّا بِإِذْنِهِ) : إلا بمشيئته ، وذلك يوم القيامة ، وفيه رد لا ستمساكها بذاتها ؛ فإنها مساوية لسائر الأجسام فى الجسمية ، فتكون قابلة للميل الهابط قبول غيرها. (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) ؛ حيث هيأ لهم هذه الأسباب لقيام معاشهم ، وفتح لهم أبواب المنافع ، ودفع عنهم أنواع المضار ، فأوضح لهم مناهج الاستدلال بالآيات التكوينية والتنزيلية ، فله الحمد وله الشكر.