الإشارة : ألم تر أن الله أنزل من سماء المعاني ماء علم الغيوب ، وهو علم أسرار الذات وأنوار الصفات ، أعنى : التوحيد الخاص ، فإذا نزل على أرض النفوس ، اهتزت وربت ، واخضرت بالعلوم والمعارف ، إن الله لطيف خبير ، لطيف ؛ لسريان معانيه اللطيفة فى كل شىء ، خبير ببواطن كل شىء ، فمن كوشف بلطيف معانيه وإحاطة علمه فى كل شىء ، وبكل شىء ، حيى قلبه بمعرفة الله ، واخضرت أرض نفسه بأنواع العلوم والمعارف ، ألم تر أن الله سخر لكم ما فى الأرض ، يكون عند أمركم ونهيكم ، وفلك الفكرة تجرى فى بحر التوحيد بأمره ، ويمسك سماء الأرواح أن تقع على أرض الحظوظ إلا بإذنه ، بعد الرسوخ فى معرفته ، والتمكين من الفهم عنه ، إن الله بالناس لرؤوف رحيم ؛ حيث فتح لهم باب العلوم ، وهيأ لهم أسباب الفهوم ، وهى الرياضة والتأديب.
ثم ذكر دليلا آخر على قدرته ، فقال :
(وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (٦٦))
يقول الحق جل جلاله : (وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ) بعد أن كنتم جمادا ، عناصر ونطفا فى الأصلاب والأرحام ، حسبما فصل فى صدر السورة ، (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) عند مجىء آجالكم ، (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) عند البعث ، لإيصال جزائكم ، (إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ) : لجحود لما أفاض عليه من ضروب النعم ، ودفع عنه من صنوف النقم ، أو لا يعرف نعمة الإيجاد المظهرة للوجود ، ولا نعمة الإمداد الممدة بعد الوجود ، ولا نعمة الإفناء المقربة إلى الموعود ، ولا نعمة الإحياء الموصلة إلى المقصود ، وهو التنعم فى جوار الملك الودود ، فله الحمد دائما وله الشكر.
الإشارة : وهو الذي أحياكم باليقظة بعد الغفلة ، وبالعلم بعد الجهل ، ثم يميتكم عن حظوظ نفوسكم وهواها ، ثم يحييكم بالمعرفة به ، حياة لا موت بعدها ، فمن لم يعرف هذا فهو كنود.
ولا يمكن الوقوف على هذه النعم والقيام بشكرها ، إلا بالتمسك بالشرع والوحي الإلهى ، الذي أنزل الله على كل أمة ، كما أبان ذلك بقوله :
(لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (٦٧) وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (٦٨) اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٦٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي