معلوم ، ولا يعسر عليه مقدور. (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي : متجاوزين إياه ، مع ظهور دلائل عظمته وقدرته وتوحيده ، (ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) : حجة وبرهانا ، (وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ) أي : وما ليس لهم بجواز عبادته علم ؛ من ضرورة أو استدلال ، أي : لم يتمسكوا فى عبادتهم لها ببرهان سماوى من جهة الوحى ، ولا حملهم عليها دليل عقلى ، بل لمجرد التقليد الرديء ، (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) أي : وما للذين ارتكبوا مثل هذا الظلم العظيم من أحد ينصرهم ، أو يصوب مذهبهم ، أو يدفع العذاب عنهم ، حين يعتريهم بسبب ظلمهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة : كما اختلفت الشرائع باختلاف الملل ، اختلفت التربية باختلاف الأشخاص والأعصار ، وقد تقدم عند قوله : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) (١). وجملتها ترجع إلى الهمة والحال ، وبهما كانت التربية فى الصدر الأول ، فكانت الملاقاة والصحبة تكفى ، ويحصل التهذيب والتصفية وكمال المعرفة. وذلك فى زمان الصحابة والتابعين إلى القرن الثالث ؛ لقربهم من النور النبوي. فلما بعد الأمر ، وأظلمت القلوب ، أحدثوا تربية الاصطلاح ، وهو التزيي بزى مخصوص ، كالمرقعة وحمل السبحة فى العنق ، والركوة ، وغير ذلك من مسائل التجريد ، وترتيب أمور تموت بها النفوس وتعالج بها القلوب ، واستعمال أوراد مخصوصة ، فكانت التربية حينئذ بالهمة والحال والاصطلاح. وقد تحصل التربية لمن له الهمة والحال بغير اصطلاح ، إذا رآه ينجع فيه ذلك ، فبقى الأمر كذلك إلى القرن التاسع ، فتصدى للتربية بالاصطلاح قوم مدّعون ، لا همة لهم ولا حال ، فقال الحضرمي حسما لهذه الدعوى : قد انقطعت التربية بالاصطلاح ، وما بقي إلا الهمة والحال ، فعليكم بالكتاب والسنة ، أي : بظاهر الكتاب والسنة من غير زيادة ولا نقصان ، يعنى طريق الأحوال والاصطلاح. ومراده بذلك : قطع التربية بالاصطلاح من غير همة ولا حال. وأما من له الهمة والحال فلا يقصد الحضرمي قطع تربيته بالاصطلاح. والحاصل : أن الحضرمي ما حكم إلا على وقته ؛ لما رأى من الفساد الذي دخل فى التربية. وقد وجد بعده رجال مربون بالاصطلاح مع الهمة والحال. والمراد بالهمة : العلم بالله على نعت الشهود والعيان ، وبالحال : إنهاض القلوب عند رؤيته لذكر الله ؛ لقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ «خيركم من إذا رؤوا ذكر الله». ولا بد من إذن خاص من الشيخ ، أو من يقوم مقامه ، وإلا فلا تنجح تربيته ، ولا ينهض حاله. والله تعالى أعلم.
فإن تأهلت للتربية بإذن خاص ، فلا ينازعنك فى الأمر ، أي : لا تلفت إلى من ينازعك ويحتج عليك بانقطاع التربية ؛ تعنتا وعنادا. وادع إلى ربك ، إنك لعلى هدى مستقيم. قال القشيري : قوله : (وَإِنْ جادَلُوكَ ...) إلخ ، أي :
__________________
(١) من الآية ٤٨ من سورة المائدة.