الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٧٣) ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٧٤))
يقول الحق جل جلاله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ) أي : يبين لكم حال مستغربة ، أو قصة بديعة رائقة حقيقة بأن تسمى مثلا ، وتنشر فى الأمصار والأعصار ، (فَاسْتَمِعُوا لَهُ) ؛ لضرب هذا المثل ؛ استماع تدبر وتفكر ، وهو : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ) ، وعن يعقوب : بياء الغيبة ، أي : إن الذين تدعونهم آلهة وتعبدونهم (مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً) أي : لن يقدروا على خلقه أبدا ، مع صغره وحقارته. و «لن» : لتأبيد النفي ، فتدل على استحالته ، (وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) أي : الذباب. ومحله : نصب على الحال ، كأنه قال : لا يقدرون على خلقه مجتمعين له ، متعاونين عليه ، فكيف إذا كانوا منفردين؟! وهذا أبلغ ما أنزل فى تجهيل قريش ، حيث وصفوا بالألوهية ـ التي من شأنها الاقتدار على جميع المقدورات ، والإحاطة بكل المعلومات ـ صورا وتماثيل ، يستحيل منها أن تقدر على أضعف ما خلقه الله تعالى وأذله ، ولو اجتمعوا له.
(وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً) من الطيب وغيره ، (لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ) أي : هذا الخلق الأرذل الأضعف ، لو اختطف منهم شيئا فاجتمعوا على أن يستخلصوه منه ، لم يقدروا ، وعن ابن عباس رضى الله عنه : أنهم كانوا يطلونها بالعسل والطيب ، ويغلقون عليها الأبواب ، فيدخل الذباب من الكوى (١) فيأكله ، فتعجز الأصنام عن أخذه. (ضَعُفَ الطَّالِبُ) : الصنم بطلب ما سلب منه ، (وَالْمَطْلُوبُ) : الذباب بما سلب. وهذا كالتسوية بينهم وبين الذباب فى الضعف ، ولو حققت لوجدت الطالب أضعف وأضعف ؛ فإنّ الذباب حيوان والصنم جماد.
(ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) : ما عرفوه حق معرفته ، حيث جعلوا هذا الصنم الضعيف شريكا له ، (إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) أي : قادر غالب ، فكيف يتجه أن يكون العاجز المغلوب شبيها له! أو : لقوى ينصر أولياءه ، عزيز ينتقم من أعدائه. بعد أن ذكر تعالى أنهم لم يقدروا له قدرا ؛ حيث عبدوا معه من هو منسلخ من صفاته ، وسموه باسمه مع عجزه. ختم بصفتين منافيتين لصفات آلهتهم ؛ وهى القوة والغلبة. والله تعالى أعلم.
الإشارة : كل من تعلق فى حوائجه بغير الله أو ركن بالمحبة إلى شىء سواه ، فقد أشرك مع الله أضعف شىء وأقله. فماذا يجدى تعلق العاجز بالعاجز ، والضعيف بالضعيف ، ضعف الطالب والمطلوب. فما قدر الله حق قدره من تعلق فى أموره بغيره. قال الورتجبي : بيّن سبحانه ـ بعد ذكر عجز الخلق والخليقة ـ جلال قدره الذي لا يعرفه غيره ، بقوله : (ما قدروا الله حق قدره) ، قال : وهذه شكاية عن إشارة الخلق إليه بما هو غير موصوف به ، فذكر
__________________
(١) الكوى : جمع كوّة ، ويجمع أيضا على كواء. وهى الخرق فى الحائط. انظر : اللسان (كوى ٥ / ٣٩٦٤). والخبر : ذكره البغوي فى تفسيره (٥ / ٤٠٠).