أنزلت» ، فشكّ عبد الله ، فقال : إن كان محمد يوحى إليه ، فأنا يوحى إلىّ ، فارتدّ ولحق بمكة كافرا ، ثم أسلم يوم الفتح. وقيل : الحكاية غير صحيحة ؛ لأن ارتداده كان بالمدينة ، والسورة مكية (١).
ثم قال تعالى : (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ) أي : بعد ما ذكر من الأمور العجيبة ، حسبما ينبىء عنه ما فى اسم الإشارة من البعد ، المشعر بعلوّ مرتبة المشار إليه وبعد منزلته فى الفضل ، (لَمَيِّتُونَ) : لصائرون إلى الموت لا محالة ، كما يؤذن به صيغة الصفة ، وقرىء «لمائتون» ، (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي : عند النفخة ، (تُبْعَثُونَ) فى قبوركم للحساب والمجازاة ، فإن قلت : لم أكدّ الأول بإنّ واللام ، وعبّر بالاسم دون الثاني ، الذي هو البعث ، والمتبادر للفهم العكس ؛ لأن الموت لم ينكره أحد ، والبعث أنكره الكفار والحكماء؟ فالجواب كما قال ابن عرفة : إنه من حمل اللفظ على غير ظاهره ، مثل :
جاء شقيق عارضا رمحه |
|
إنّ بنى عمّك فيهم رماح |
فهم ، لعصيانهم ومخالفتهم ، لم يعملوا للموت ، فحالهم كحال المنكر لها ، ولمّا كانت دلائل البعث ظاهرة صار كالأمر الثابت الذي لا يرتاب فيه. ه.
الإشارة : اعلم أن الروح لها أطوار كأطوار البشرية ، من الضعف والقوة شيئا فشيئا ، باعتبار قوة اليقين والترقي إلى العلم بالله ومشاهدته ، فتكون أولا صغيرة العلم ، ضعيفة اليقين ، تم تتربى بقوت القلوب وغذاء الأرواح ؛ فقوت القلوب : العمل الظاهر ، وقوت الأرواح : العمل الباطن ، فلا تزال تتقوت بالعمل الظاهر شيئا فشيئا حتى تقوى على كمال غايته ، ثم تنتقل إلى قوت العمل الباطن ؛ كالذكر القلبي ، والتفكر والاعتبار ، وجولان القلب فى ميادين الأغيار ، ثم دوام حضور القلب مع الحق على سبيل الاستهتار ، ثم يفتح لها ميادين الغيوب ، ويوسع عليها فضاء الشهود ، فيكون قوتها حينئذ رؤية المحبوب ، وهو غاية المطلوب ، فتبلغ مبلغ الرجال ، وتحوز مراتب الكمال ، ومن لم يبلغ هذا بقي فى مرتبة الأطفال ، ولا يمكن حصول هذا إلا بصحبة طبيب ماهر ، يعالجها ويربيها ، وينقلها من طور إلى طور ، وإلّا بقيت الروح مريضة لا تتقوت إلا بالمحسوسات ، وهى لا تشبع ولا تغنى من جوع. وبالله التوفيق.
ولمّا ذكر ابتداء الإنسان وانتهاءه ، ذكّره بنعمه ، أو تقول : لما ذكر نعمة الإيجاد ذكر نعمة الإمداد ، فقال :
(وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (١٧) وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (١٨) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ
__________________
(١) انظر روح المعاني (١٨ / ١٦).