(فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) أي : أشرافهم لعوامهم : (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) فى الجنس والوصف ، يأكل ويشرب مثلكم ، من غير فرق بينكم وبينه ، (يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ) أي : يطلب الفضل عليكم ، ويتقدمكم بادعاء الرسالة مع كونه مثلكم ، والعجب منهم أنهم رضوا بالألوهية والخضوع للحجر ، ولم يرضوا بنبوة البشر. ثم قالوا : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) أي : لو شاء الله إرسال الرسل لأرسل رسلا من الملائكة. وإنما قال : لأنزل ولم يقل : لأرسل ؛ لأنّ إرسال الملائكة لا يكون إلا بطريق الإنزال ، فمفعول المشيئة مطلق الإنزال ، أي : لو شاء ربنا إنزال شىء من الوحى لأنزل ملائكة يرسلهم إلينا ، (ما سَمِعْنا بِهذا) أي : بمثل هذا الكلام ، الذي هو الأمر بعبادة الله وحده ، وترك عبادة ما سواه ، أو : ما سمعنا بأنّ البشر يكون رسولا ، أو بمثل نوح عليهالسلام فى دعوى النبوة ، (فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) أي : الماضين قبل بعثة نوح عليهالسلام. وإنما قالوا ذلك ؛ إما من فرط عنادهم ، أو لأنهم كانوا فى فترة متطاولة ، وقيل : معناه : ما سمعنا به أنه نبى ، (إِنْ هُوَ) أي : ما هو (إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ) أي : جنون ، أو جن يخبلونه ، ولذلك يقول ما يقول. (فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ) أي : انتظروا واصبروا إلى زمان حتى ينجلى أمره ، فإن أفاق من جنونه ، وإلا قتلتموه.
(قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ) ، لمّا أيس من إيمانهم دعا الله بالانتقام منهم ، فالجملة استئناف نشأ عن سؤال ، كأنه قيل : فماذا قال عليهالسلام ، بعد ما سمع هذه الأباطيل؟ فقيل : قال ، لما رآهم قد أصروا على الكفر والتكذيب ، وتمادوا فى الغواية والضلال ، حتى أيس من إيمانهم بالكلية ، وقد أوحى إليه أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن : (رَبِّ انْصُرْنِي) بإهلاكهم بالمرة ، فهو حكاية إجمالية لقوله : (لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) (١). (بِما كَذَّبُونِ) ؛ بسبب تكذيبهم إياى ، أو بدل تكذيبهم ، كقولك : هذا بذلك ، أي : بدل ذاك ، والمعنى : أبدلنى من غم تكذيبهم سلوة النصر عليهم.
(فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ) ؛ أجبنا دعاءه وأوحينا إليه عند ذلك (أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا) أي : ملتبسا بحفظنا وكلاءتنا ، كأنّ معك حفاظنا يكلؤونك بأعينهم ، لئلا يتعرض لك أحد ، يفسد عملك ، ومنه قولهم : عليه من الله عيون كالئة ، (وَوَحْيِنا) أي : أمرنا وتعليمنا إياك صنعتها. روى : أنه أوحى إليه أن يصنعها مثل جؤجؤ الطائر. وفى القاموس جؤجؤ ـ كهدهد ـ : الصدر. (فَإِذا جاءَ أَمْرُنا) أي : عذابنا بأمرنا ، (وَفارَ التَّنُّورُ) أي : فار الماء من تنور الخبز ، فخرج سبب الغرق من موضع الحرق ؛ ليكون أبلغ فى الإنذار والاعتبار. روى أنه قيل لنوح : إذا رأيت الماء يفور من التنور ؛ فاركب أنت وأهلك السفينة ، فلما نبع الماء من التنور ؛ أخبرته امرأته ، فركب ، وكان
__________________
(١) من الآية ٢٦ من سورة نوح.