وقد اختلف أهل التأويل في تأويل هذه الآية ، فقال جماعة : إنّ لفظة «ما» هاهنا للنفي ، والمراد أنّ آباؤهم ما أنذروا ، لأنّ المصلحة لم تقتض بعثة رسول إليهم ؛ وليس من المعلوم لنا أنّ عيسى عليهالسلام كان الحجّة على كلّ مكلّف كان بين زمانه وبين زمان نبيّنا صلىاللهعليهوآلهوسلم.
ويقوّي هذا الجواب إثبات الفترة وأنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم بعث على فترة من الرسل.
وذهب قوم من أهل التأويل إلى أنّ «ما» في الآية ليست للنفي بل للإثبات ؛ والمراد : لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم ؛ وهذا أيضا جائز.
ويقوّي هذا الجواب ويضعف الأوّل أنّ قوله تعالى : (فَهُمْ غافِلُونَ) يقتضي الذمّ لهم بالغفلة ؛ وذلك يقتضي أنّهم أنذروا فغفلوا وأعرضوا. ولا يذمّ بالغفلة من لا سبيل له إلى العلم والتبيّن.
وفي الناس من حمل قوله تعالى : (ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ) على النفي ، والمراد أنّه لم ينذرهم من هو منهم وعلى نسبهم ومن أنفسهم ؛ كما قال تعالى : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) (١) فيكون تلخيص الكلام : لتنذر قوما أنت منهم ما أنذر آباؤهم من هو منهم ؛ أي من قومهم ومن أنفسهم.
ويمكن في لفظة «ما» وجه آخر وهو أن يراد بها التنكير ؛ كأنّه قال : (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما) وتقف ، ثمّ تبتدىء فتقول : (أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ) ؛ كما يقول القائل : أكلت طعاما مّا ، ولقيت جماعة مّا ، ويكون الغرض التنكير والإجمال ؛ وليست لفظة «ما» هاهنا زائدة ؛ لأنّ حدّ الزائد أن يكون دخوله في عدم الفائدة كخروجه ؛ وهي هاهنا مفيدة على ما بيّناه (٢).
ـ (إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ) [يس : ١١].
أنظر البقرة : ٢ من الرسائل ، ٤ : ٢٢٧.
ـ (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٠)
__________________
(١) سورة التوبة ، الآية : ١٢٨.
(٢) الأمالي ، ٢ : ٢٧١.