وروي عن مجاهد في قوله تعالى : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً) قال : هو داود أوحي في صدره فزبر الزّبور ، «أو من وراء حجاب» وهو موسى ، «أو يرسل رسولا» وهو جبريل إلى محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم.
فأمّا الجبّائيّ فإنّه ذكر أنّ المراد بالآية : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ) إلّا مثل ما يكلّم به عباده من الأمر بطاعته ، والنهي لهم عن معاصيه ، وتنبيهه إيّاهم على ذلك من جهة الخاطر أو المنام ، أو ما أشبه ذلك على سبيل الوحي.
قال : وإنّما سمي الله ذلك وحيا لأنّه خاطر وتنبيه ، وليس هو كلاما لهم على سبيل الإفصاح ، كما يفصح الرجل منّا لصاحبه إذا خاطبه. والوحي في اللغة إنّما هو ما جرى مجرى الإيماء والتنبيه على شيء من غير أن يفصح به ؛ فهذا هو معنى ما ذكره الله تعالى في الآية.
قال : وعنى بقوله : (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) أي يحجب ذلك الكلام عن جميع خلقه ، إلّا من يريد أن يكلّمه به ؛ نحو كلامه لموسى عليهالسلام ، لأنّه حجب ذلك عن جميع الخلق إلّا موسى عليهالسلام وحده في كلامه إياه أوّلا فأمّا كلامه إيّاه في المرّة الثانية فإنّه إنّما أسمع ذلك موسى عليهالسلام والسبعين الذين كانوا معه ، وحجب عن جميع الخلق سواهم. فهذا معنى قوله عزوجل : (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) ، لأنّ الكلام هو الذي كان محجوبا عن الناس.
وقد يقال : إنّه تعالى حجب عنهم موضع الكلام الذي أقام الكلام فيه ؛ فلم يكونوا يدرون من أين يسمعونه ؛ لأنّ الكلام عرض لا يقوم إلّا في جسم.
ولا يجوز أن يكون أراد بقوله : (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) أنّ الله تعالى كان (مِنْ وَراءِ حِجابٍ) يكلّم عباده ؛ لأنّ الحجاب لا يجوز إلّا على الأجسام المحدودة.
قال : وعنى بقوله : (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ) إرساله ملائكة بكتبه وكلامه إلى أنبيائه عليهمالسلام ، ليبلّغوا عنه ذلك عباده على سبيل إنزاله القرآن على محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وإنزاله سائر الكتب على أنبيائه ؛ فهذا أيضا ضرب من الكلام الذي يكلّم الله تعالى عباده ويأمرهم فيه بطاعته ، وينهاهم عن معاصيه ؛ من غير