أن يكلّمهم على سبيل ما كلّم به موسى ، وهذا الكلام هو خلاف الوحي الذي ذكره الله تعالى في أوّل الآية لأنّه قد أفصح تعالى لهم في هذا الكلام بما أمرهم به ونهاهم عنه. والوحي الذي ذكره تعالى في أوّل الآية إنّما هو تنبيه وخاطر ، وليس فيه إفصاح.
وهذا الذي ذكره أبو علي أيضا سديد ، والكلام محتمل لما ذكره.
ويمكن في الآية وجه آخر : وهو أن يكون المراد بالحجاب البعد والخفاء ، ونفي الظهور. وقد تستعمل العرب لفظة «الحجاب» فيما ذكرناه ؛ يقول أحدهم لغيره إذا استبعد فهمه ، واستبطأ فطنته : بيني وبينك حجاب ، وتقول للأمر الذي تستبعده وتستصعب طريقه ؛ بيني وبين هذا الأمر حجب وموانع وسواتر ؛ وما جرى مجرى ذلك ؛ فيكون معنى الآية : أنّه تعالى لم يكلّم البشر إلّا وحيا ؛ بأن يخطر في قلوبهم ، أو بأن ينصب لهم أدلّة تدلّهم على ما يريده أو يكرهه منهم ؛ فيكون من حيث نصبها للدلالة على ذلك والإرشاد إليه مخاطبا ومكلّما للعباد بما يدلّ عليه. وجعل هذا الخطاب من وراء حجاب من حيث لم يكن مسموعا ـ كما يسمع الخاطر وقول الرسول ـ ولا ظاهرا معلوما لكلّ من أدركه ؛ كما أنّ أقوال الرسل المؤدّين عنه تعالى من الملائكة بهذه الصفة. فصار الحجاب هاهنا كناية عن الخفاء وعبارة عمّا تدلّ عليه الدلالة. وليس لأحد أن يقول : إنّ الذي تدلّ عليه الأجسام من صفاته تعالى وأحواله ومراده. ولا يقال : إنّه تعالى مكلّم لنا به وذلك أنّ غير ممتنع على سبيل التجوّز أن يقال فيما يدلّ عليه الدليل الذي نصبه الله تعالى ليدلّ على مراده ، ويرشد إليه : إنّه مكلّم لنا ومخاطب به ؛ ولا يمتنع المسلمون أن يقولوا : إنّه تعالى خاطبنا بما دلّت عليه الأدلة العقلية ، وأمرنا بعبادته واجتناب ما كرهه منا ، وفعل ما أراده ، وهكذا يقولون فيمن فعل فعلا يدل على أمر من الأمور : قد خاطبنا فلان بما فعل من كذا وكذا ، وقال لنا ، وأمرنا ؛ وزجرنا ، وما أشبه ذلك من الألفاظ التي يجرونها على الكلام الحقيقي. وهذا الاستعمال أكثر وأظهر من أن يورد أمثاله ونظائره (١).
__________________
(١) الأمالي ، ٢ : ١٧٧.