تعالى أنّ العلة في قلة صبره ما ذكرناه دون غيره ، ولو كان على ما ظنّوه لوجب أن يقول : وكيف تصبر وأنت غير مطيق للصبر!
فأمّا قوله تعالى : (ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ) فلا تعلّق لهم بظاهره ؛ لأنّ السمع ليس بمعنى فيكون مقدورا ، لأنّ الإدراك على المذهب الصحيح ليس بمعنى ، ولو ثبت أنّه معنى على ما يقوله أبو علي لكان أيضا غير مقدور للعبد من حيث يختصّ تعالى بالقدرة عليه.
هذا إن أريد بالسمع الإدراك ؛ وإن أريد به نفس الحاسّة فهي أيضا غير مقدورة للعباد ؛ لأنّ الجواهر وما تختصّ به الحواسّ من البنية والمعاني ليصحّ به الإدراك ممّا ينفرد به القديم تعالى في القدرة عليه. فالظاهر لا حجّة لهم فيه.
فإن قالوا : فلعلّ المراد بالسمع كونهم سامعين ؛ كأنّه تعالى نفى عنهم استطاعة أن يسمعوا.
قلنا : هذا خلاف الظاهر ؛ ولو ثبت أنّ المراد ذلك لحملنا نفي الاستطاعة ها هنا على ما تقدّم ذكره من الاستثقال وشدّة المشقّة ، كما يقول القائل : فلان لا يستطيع أن يراني ، ولا يقدر أن يكلّمني ، وما أشبه ذلك ، وهذا بيّن لمن تأمّله (١).
ـ (وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً) [الإسراء : ٤٩]
أنظر البقرة : ٧٢ ، ٧٣ من الأمالي ، ٢ : ١٩٢.
ـ (إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً) [الإسراء : ٥٣]
أنظر البقرة : ٢٦ ، ٢٧ من الرسائل ، ٢ : ١٧٧ إلى ٢٤٧.
ـ (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) [الإسراء : ٥٩]
أنظر غافر : ٥١ من الرسائل ، ٣ : ٢٠٩.
ـ (قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً) [الإسراء : ٦٢]
أنظر البقرة : ٣٤ من الرسائل ، ٢ : ١٥٥.
__________________
(١) الأمالي ، ٢ : ١٤٢.