والمنافع الدنيوية ، ألا ترى قوله تعالى : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) والكرامة إنّما هي الترفيه وما يجري مجراه ، ثمّ قال : (وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ).
ولا شبهة في أنّ الحمل لهم في البرّ والبحر ورزق الطيبات خارج عمّا يستحقّ به الثواب ، ويقتضي التفضيل الذي وقع الخلاف فيه ، فيجب أن يكون ما عطف عليه من التفضيل داخلا في هذا الباب وفي هذا القبيل ، فإنّه أشبه من أن يراد به غير ما سياق الآية وارد به ومبنيّ عليه. وأقلّ الأحوال أن تكون لفظة «فضلناهم» محتملة للأمرين ، فلا يجوز الاستدلال بها على خلاف ما تذهب إليه (١).
ـ (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً) [الإسراء : ٧٢].
[إن سأل سائل] فقال : كيف يجوز أن يكونوا في الآخرة عميا ، وقد تظاهر الخبر عن الرسول «عليه وآله السلام» بأنّ الخلق يحشرون كما بدئوا سالمين من الآفات والعاهات ، قال الله تعالى : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) (٢) ، وقال عزوجل : (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) (٣) ، وقال جلّ وعلا : (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (٤).
الجواب : يقال في هذه الآية أربعة أجوبة :
أحدها : أن يكون العمي الأوّل إنّما هو عن تأمّل الآيات ، والنظر في الدّلالات والعبر التي أراها الله المكلّفين في أنفسهم وفيما يشاهدون ، ويكون العمي الثاني هو عن الإيمان بالآخرة ، والإقرار بما يجازى به المكلّفون فيها من ثواب أو عقاب ، وقد قال قوم : إنّ الآية متعلّقة بما قبلها من قوله تعالى : (رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) (٥) إلى قوله تعالى : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى
__________________
(١) الرسائل ، ٢ : ١٦٤.
(٢) سورة الأعراف ، الآية : ٢٩.
(٣) سورة الأنبياء ، الآية : ١٠٤.
(٤) سورة ق ، الآية : ٢٢.
(٥) سورة الإسراء ، الآية : ٦٦.