٢ ـ جاذبية التاريخ
لِمَ كان التاريخ معلماً؟ الإجابة عن هذا السؤال ليست صعبة ، وذلك لإمكانية تشبيه التاريخ بالمختبر الكبير الذي تخضع فيه قضايا حياة الإنسان المختلفة للتحليل.
وعلى هذا الأساس ، فكما أنّ العلوم التحليلية حلت الكثير من مسائلها وقدّمت الكثير من البراهين الحية لإثبات الواقعيات بالاختبار ، كذلك التاريخ ذلك المختبر العظيم حيث تختبر فيه الكثير من القضايا والمسائل ، حيث يميز فيه الذهب الخالص من الذهب غير الواقعى ، وبه تزول الأوهام عن الأذهان.
إذا حللت ظواهر الأجسام أو تركيباتها في مختبرات الكيمياء والفيزياء ، فانّك في مختبر التاريخ تحلل أسرار انتصار وفشل الأقوام السالفة ، وسبب سيادة وتطور أو انحطاط الحضارات ، وردود الفعل وصفات ومعنويات الأقوام والأشخاص ، واسلوب عملهم بجاذبية وجمال فائق.
وبذلك يكون التاريخ وسيلة مناسبة لدراسة عوامل السعادة وشقاء البشر.
وإذا شاهدنا في القرآن الكريم تأكيداً على تاريخ الامم السالفة ، وشاهدنا فيه من السور الدالّة على المباحث التاريخية حتى أنّ بعض السور تدور معظم آياتها أو كلّها حول تاريخ الأقوام السالفة فذلك كله ناشيء من هذه الملاحظة التي أشرنا اليها.
وقد ينكر المعاندون بعض المسائل النظرية ، إلّاأنّه لا يمكنهم انكار واقعيات التاريخ القطعية ، وبالخصوص الحوادث التي أشار اليها القرآن حيث نراه يأخذ بأيدي الناس إلى ما خلّفته الأقوام الغابرة ، ويروي قصصهم على قبورهم وقمم مدنهم الخربة.
إنّ التاريخ ـ في الحقيقة ـ فرع من المسائل التجريبية ، وبتعبير آخر يمكن ادغامه في مصدر «الحس والتجربة» إلّاأنّه يختلف عن الحس والتجربة اختلافاً طفيفاً فالحس والتجربة يتعلقان بالحاضر لكن التاريخ يتعلق بالماضي ، وأنّ الحس والتجربة قد يتعلقان بذات الفرد فقط بينما التاريخ يتعلق بجميع ذوات البشر.
ولكن الأهميّة الفائقة لهذا الفرع من التجربة تفرض علينا دراسته كمصدر مستقل للمعرفة.