إنّ هذا مجربٌ ، فتارة يتفوه الإنسان بحديث كذب ويعلم أنّه كذب وافتراء ، وعلى ضوءِ اعادة الحديث يقع في شك منه ، ثم يعيده مرات اخرى فيصدق به ، حتى يبلغ درجة الاعتقاد بالرغم من عدم واقعيته ، فيصير حجاباً أمام رؤيته العقلية السليمة.
وعلى هذه فلا مجال للقول بأنّ الكذابين هم فريق من اليهود وأنّ المخدوعين يمثلون فريقاً آخر.
* *
وقد أشارت الآية الثانية إلى قوم عاد ، وهم قوم ذو قدرة ، كانوا يعيشون في الاحقاف (جنوب أو شمال الجزيرة العربية) ، وابتلوا بالريح العاصف إثر تكذيبهم لرسولهم «هود» وإثر ظلمهم وفسادهم في الأرض.
فالآية تقول : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيْمَا انْ مَّكَّنَّاكُمْ فِيْهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً ... وَحَاقَ بِهِمْ مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ).
إنّ الآية تؤكد أن تكذيبهم المتوالي لآيات الله سبَّب سلب إدراكهم ومعرفتهم ، فابصارهم ترى وآذانهم تسمع وأفكارهم تعقل ظاهراً ، إلّاأنّ الستار الحاجب حال دون استعانتهم بوسائل المعرفة هذه فابتلوا بعذاب الله.
«يجحدون» من مادة «جحود» ويعني في الأصل نفي شيء تيقن الإنسان من وجوده أو إثبات شيءٍ يؤمن الإنسان بعدمه ، وبتعبير آخر : الجحود يعني انكار الواقعيات عمداً وعن معرفة (١).
إنّ التجربة أثبتت أنّ الإنسان إذا ما استمر في انكار الحقيقة ، فستصبح القضايا التي يؤمن بها بشكل قطعي مورد شك وبشكل دائم ، وإذا استمر الانكار أكثر فإنّ قدرته على التمييز تتبدل بحيث يرى الحق باطلاً والباطل حقاً.
__________________
(١). مفردات الراغب مادة (جحد) ، كما يقول الجوهري : إنّ الجحود هو الانكار مع العلم. كما ذكر ذلك صاحب مجمع البحرين في مادة (جحد).