وله الحضور العلمي في كلّ مكان ، وأنّ مثل هذا الموجد لا يتصوّر أنْ يكون له ثانٍ ، فلو كان الإله الثاني موجوداً فإنّه يعني أنّ الإثنين محدودان وذلك لانتهاء كلّ واحد عندما يصل إلى الآخر ، ويبدأ الثاني.
إذن عدم محدوديته دليل على وحدانيته.
يقول الفخر الرازي في تفسيره : استدلّ الكثير من العلماء على إثبات وحدانيته بعبارة : (هو الأوّل) (١).
وقد كثر الكلام حول مفهوم (الأوّل والآخر والظاهر والباطن)) وستأتي لاحقاً أبحاث الصفات الثبوتية بإذن الله ، وينبغي أن نذكر هنا هذه النقطة وهي : أنّ الأوّل في الموجودات المحدودة لا يمكن أن يكون آخراً وما كان آخراً لا يكون أوّلاً ، كما أنّ الوجود الظاهر لا يكون باطناً ، والوجود الباطن لا يكون ظاهراً ، وعندما يكون الحديث عن اللامحدود فإنّ هذه المفاهيم تكون مجتمعة فيه.
* * *
الآية الثالثة والأخيرة التي وردت في بحثنا تتحدّث عن لسان يوسف عليهالسلام عندما فسّر للسجينين معه مناميهما بعد أن طلبا التفسير منه وتشير إلى أنّ يوسف عليهالسلام عرج من كلامه عن الحلم وتفسيره إلى البحث عن التوحيد الذي يتضمّن أصل السعادات برمّتها وقال لهما : (يَاصَاحِبَى السِّجنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيرٌ أَمِ اللهُ الوَاحِدُ القَهّارُ).
والملاحظ أنّ صفة (قهّار) قد تكرّرت في القرآن الكريم ستّ مرّات (٢) وقد وردت في كلّ مورد بعد الصفة (واحد) ممّا يدلّ على وجود علاقة بينهما وأنّ قاهريته دليل على وحدانيته (فتأمّل جيّداً).
قام يوسف عليهالسلام بطرح المسألة أوّلاً على وجدانيهما ، وبما أنّ حقيقة التوحيد ـ كما أشرنا سالفاً ـ كامنة في أعماق الفطرة الإنسانية فقد أقام المحكمة بين يدي الوجدان وسأل :
__________________
(١) تفسير الكبير ، ج ٢٩ ، ص ٢١٣ (وجاء هذا المضمون في تفسير روح البيان ، ج ٩ ، ص ٣٤٧ أيضاً).
(٢) الرعد ، ١٦ ؛ إبراهيم ، ٤٨ ؛ ص ، ٦٥ ؛ الزمر ، ٤ ؛ غافر ، ١٦ وآية البحث.