بوضوح ويتقبّلها ، فهو حينما يشاهد ـ مثلاً ـ باقة من الورد الجميل ذات عطر زكيّ يقرّ بجمالها ، دونما حاجة إلى إقامة الدليل أبداً ، ويقول بأنّها جميلة حقّاً ولا تحتاج إلى دليل.
والفهم الفطري في مجال المعرفة الإلهيّة من هذا القبيل ، فالإنسان حينما يتدبّر من أعماق روحه يبصر نور الحقّ ويسمع نداءه بقلبه ، يدعوه إلى مبدأ العلم والقدرة التي لا مثيل لها في عالم الوجود ، مبدأ الكمال المطلق ومطلق الكمال ، وهو في الفهم الوجداني ـ كما في جمال الورد ـ لا يشعر بحاجة إلى إقامة الدليل.
* * *
٣ ـ شواهد حيّة على فطرية الإيمان بالله
ربّما يقال بأنّ هذه كلّها ادّعاءات ولا سبيل لإثبات مثل هذه الفطرة في المعرفة الإلهيّة ، فمن الممكن أن أدّعي بأنّي أشعر بهذا الإحساس في قلبي أي من أعماق روحي ، ولكن كيف أقنع شخصاً يرفض هذا الكلام؟ لدينا شواهد كثيرة بإمكانها إثبات فطرية المعرفة الإلهيّة بشكل واضح جدّاً ، بنحو يفحم المنكرين ، ويمكن تلخيصها في أقسام خمسة :
أ) الحقائق التاريخية
إنّ الحقائق التاريخية التي تمّت دراستها من قِبَل أقدم المؤرّخين في العالم تدلّ على عدم وجود دين لدى الأقوام السابقة ، بل كان كلّ قوم يؤمنون بمبدأ العلم والقدرة في عالم الوجود ويعبدونه ، ولو سلّمنا بوجود حالات نادرة في هذا الأمر ، فإنّ هذه القضية لا تضرّ بالأصل العام الذي يحكم بأنّ المجتمعات البشرية كلّها كانت دائماً على طريق عبادة الله (كل قاعدة كليّة لها استثناءات نادرة).
المؤرّخ الغربي الشهير (ويل ديورانت) في كتابه (قصة الحضارة) يُقرّ بهذه الحقيقة بعد الإشارة إلى بعض الموارد في الإلحاد الديني ويقول : «إلى جانب هذه القضايا التي ذكرناها فإنّ الإلحاط الديني من الحالات النادرة ، وهذا الإعتقاد القديم بأنّ التديّن حالة بشرية عامّة يتطابق مع الحقيقة ...».