ثم شرع فى بيان شأنهما ، فقال :
(إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٤) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (٥) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (٦))
يقول الحق جل جلاله : (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ) ، وهو استئناف بيانى ، وكأن قائلا قال : وكيف كان نبأهما؟ فقال : إنه علا فى الأرض ، أي : تجبّر وطغى فى أرض مصر ، وجاوز الحد فى الظلم والعدوان. أو : علا عن عبادة ربه ، وافتخر بنفسه ، ونسى العبودية. وفى التعبير بالأرض تبكيت عليه ، أي : علا فى محل التذلل والانخفاض ، (وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً) أي : فرقا وأصنافا فى الخدمة والتسخير ، كلّ قوم من بنى إسرائيل فى شغل مفرد. وقيل : ملك القبط واستعبد بنى إسرائيل. أو : فرقا مختلفة ، يكرم طائفة ويهين أخرى ، فأكرم القبط ، وأهان بنى إسرائيل. (يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ) وهم بنو إسرائيل ، وهو يرشد إلى كون المراد بقوله : (وَجَعَلَ أَهْلَها) لا يخصّ ببني إسرائيل. (يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ) الذكور ، (وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ) أي : البنات ، يتركهم لخدمته.
وسبب ذبحه للأبناء أن كاهنا قال له : يولد مولود فى بنى إسرائيل ، يذهب ملكك على يده ، وفيه دليل على حمق فرعون ، فإنه إن صدق الكاهن لم ينفعه القتل ؛ إذ لا ينفع حذر من قدر ، وإن كذب فلا معنى للقتل. وجملة : (يَسْتَضْعِفُ) : حال من الضمير فى (جَعَلَ) ، أو صفة لشيع ، أو استئناف. (إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) ، أي : الراسخين فى الإفساد ، ولذلك اجترأ على تلك العزيمة العظيمة ، من قتل المعصومين من أولاد الأنبياء ـ عليهمالسلام.
(وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَ) أي : نتفضل (عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ) على الوجه المذكور بالقتل والتسخير. وهذه الجملة معطوفة على : (إِنَّ فِرْعَوْنَ) ، أو : حال من (يَسْتَضْعِفُ) ، أي : يستضعفهم فرعون ونحن نريد أن نمنّ عليهم ، وإرادة الله تعالى كائنة لا محالة ، فجعلت كالمقارنة لاستضعافهم ، (وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً) أي : قادة يقتدى بهم فى الخير ، أو : دعاة إلى الخير ، أو : ولاة وملوكا ، (وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) أي : يرثون فرعون وقومه ، ملكهم وكل ما كان لهم.
(وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) ؛ أرض مصر والشام ، يتصرفون فيها كيف شاءوا ، وتكون تحت ملكهم وسلطانهم. وأصل التمكن : أن يجعل له مكانا يقعد عليه ، ثم استعير للتسليط والتصرف فى الأمر. (وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ