مدين. وروى أنه خرج بلا زاد ولا درهم ، ولا ظهر ، ولا حذاء ـ أي : نعل ـ ، ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر ، فما بلغ مدين حتى وقع خفّ قدمه ، وخضرة البقل ترى على بطنه (١).
(وَلَمَّا وَرَدَ) ؛ وصل (ماءَ مَدْيَنَ) ؛ بئرا لهم ، (وَجَدَ عَلَيْهِ) ؛ على جانب البئر (أُمَّةً) ؛ جماعة كثيرة (مِنَ النَّاسِ) ؛ من أناس مختلفين (يَسْقُونَ) مواشيهم ، (وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ) ؛ فى مكان أسفل من مكانهم (امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ) : تطردان غنمهما عن الماء ، حتى تصدر مواشى الناس ثم تسقيان ؛ لأن على الماء من هو أقوى منهما ، فلا يتمكنان من السقي. أو : لئلا تختلط أغنامهما بأغنامهم. والذود : الطرد والدفع.
(قالَ) لهما موسى : (ما خَطْبُكُما) : ما شأنكما لا تسقيان؟ والأصل : ما مخطوبكما ، أي : مطلوبكما ، فسمى المطلوب خطبا ، (قالَتا لا نَسْقِي) غنمنا (حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ) ، أي : يصرفوا مواشيهم ، يقال : أصدر عن الماء وصدر ، والمضارع : يصدر ويصدر ، والرعاء : جمع راع ، كقائم وقيام ، والمعنى : لا نستطيع مزاحمة الرجال ، فإذا صدروا سقينا مواشينا ، (وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ) السن ، لا يمكنه سقى الأغنام ، وهو شعيب بن نويب بن مدين بن إبراهيم ـ عليهماالسلام ـ وقيل : هو «يثرون» بن أخى شعيب (٢) ، وكان شعيب قد مات بعد ما كفّ بصره ، ودفن بين المقام وزمزم. والأول أصح وأشهر.
(فَسَقى لَهُما) أي : فسقى غنمهما لأجلهما ؛ رغبة فى المعروف وإغاثة الملهوف ، روى أنه نحى القوم عن رأس البئر ، وسألهم دلوا ، فأعطوه دلوهم ، وقالوا : استق به ، وكانت لا ينزعها إلا أربعون ، فاستقى بها ، وصبها فى الحوض ، ودعا بالبركة. وقيل : كانت آبارهم مغطاة بحجارة كبار ، فعمد إلى بئر ، وكان حجرها لا يرفعه إلا جماعة ، فرفعه وسقى للمرأتين. ووجه مطابقة جوابهما سؤاله : أنه سألهما عن سبب الذود ، فقالتا : السبب فى ذلك أنا امرأتان مستورتان ضعيفتان ، لا نقدر على مزاحمة الرجال ، ونستحى من الاختلاط بهم ، فلابد لنا من تأخير السقي إلى أن يفرغوا. وإنما رضى شعيب عليهالسلام لابنتيه بسقى الماشية ؛ لأن الأمر فى نفسه مباح مع حصول الأمن ، وأما المروءة فعادات الناس فيها متباينة ، وأحوال العرب فيها خلاف أحوال العجم ، ومذهب أهل البدو فيه غير مذهب أهل الحضر ، خصوصا إذا كانت الضرورة. قاله النسفي. قلت : وقد كنت أعترض على أهل الجبل رعي النّساء المواشي حتى تذكرت قضية ابنتي شعيب ، لكن السلامة فى زماننا هذا حبس النساء فى الديار ؛ لكثرة أهل الفساد.
__________________
(١) انظر تفسير ابن كثير (٣ / ٣٨٣ ـ ٣٨٤).
(٢) ذكره فى تفسيره (٦ / ٢٠٠) عن وهب بن منبه.