(ثُمَ) لما سقى لهما (تَوَلَّى إِلَى الظِّلِ) ؛ ظل شجرة. عن عمرو بن ميمون ، عن عبد الله ؛ قال : أحييت ليلتين على جمل لى ، حتى صبّحت مدين ، فسألت عن الشجرة التي أوى إليها موسى ، فإذا هى شجرة خضراء ، فأخذ جملى يأكل منها ثم لفظها. ه (١). وفى الآية دليل على جواز الاستراحة والاستظلال فى الدنيا ، بخلاف ما يقوله بعض المتقشفة ، وسيأتى فى الإشارة تمامه إن شاء الله.
ثم بث شكواه لمولاه (فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ) قليل أو كثير (فَقِيرٌ) ؛ محتاج. قال ابن عباس : لقد قال ذلك وإن خضراء البقل لتتراءى فى بطنه ، من الهزال. قيل : لم يذق طعاما منذ سبعة أيام ، وقد لصق بظهره بطنه ، وما سأل الله تعالى الأكلة. وفى هذا تنبيه على هوان الدنيا على الله تعالى. وقال ابن عطاء : نظر من العبودية إلى الربوبية ، وتكلم بلسان الافتقار ، لما ورد على سره من الأنوار. ه.
الإشارة : ولما توجه القلب تلقاء مدين المآرب ، ومنتهى الرغائب ـ وهى الحضرة القدسية ـ قال : عسى ربى أن يهدينى سواء السبيل ، أي : وسط الطريق التي توصل إليها ، وهو شيخ التربية. ولمّا ورد مناهله ، ومحل شربه ؛ وجد عليه أمة من الناس يسقون قلوبهم من شراب تلك الخمرة ، ويطلبون مثل ما يطلب ، فإن كان قويا فى حاله ؛ وصل من كان ضعيفا وسقى له ، ثم نزل إلى ظل المعرفة ، فى نسيم برد الرضا والتسليم ، قائلا ، بلسان التضرع ، سائلا من الله المزيد : ربّ إنى لما أنزلت إلىّ من خير الدارين ، وغنى الأبد ، فقير محتاج إلى مزيد الفضل والكرم.
وقال فى لطائف المنن : (ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِ) ؛ قصدا لشكر الله تعالى على ما ناله من النعمة ـ يعنى : نعمة الظل الحسى ـ وجعله أصلا فى استعمال الطيبات ، وتناولها بقصد الشكر ، ومثله فى التنوير. وفى سنن أبى داود عن عائشة ـ رضى الله عنها ـ قالت : «كان صلىاللهعليهوسلم يستعذب له الماء من بيوت السّقيا» (٢) ، قال ابن قتيبة : هى عين ، بينها وبين المدينة يومان. ه. وكان الشيخ ابن مشيش يقول لأبى الحسن رضي الله عنه : (يا أبا الحسن ، برّد الماء ؛ فإن النفس إذا شربت الماد البارد ؛ حمدت الله بجميع الجوارح ، وإذا شربت الماء السخن ؛ حمدت الله بكزازة).
ثم ذكر اتصاله بشعيب ، فقال :
(فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٥) قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (٢٦)
__________________
(١) أخرجه ابن جرير (٢٠ / ٥٨) وذكره ابن كثير (٣ / ٣٨٤).
(٢) أخرجه أبو داود فى (الأشربة ، باب فى إيكاء الآنية ، ح ٣٧٣٥ ، ٤ / ١١٩) والحاكم (٤ / ١٣٨) وبنحوه ، أحمد فى المسند (٦ / ١٠٠). والسقيا : منزل بين مكة والمدينة ، على يومين من المدينة. انظر : النهاية فى غريب الحديث (سقا ، ٢ / ٣٨٢).