سورة العنكبوت
مكية ، إلا صدرها ؛ العشر الآيات ، فإنها نزلت بالمدينة فى شأن من كان من المسلمين بمكة ، وإلا قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا) إلى : (الْمُنافِقِينَ) (١) ؛ فإنها نزلت فى المتخلفين عن الهجرة. وهى كالتعليل لخاتمة ما قبلها ؛ من البشارة بالنصر ؛ لأنه لا يكون فى الغالب إلا بعد الامتحان ، كما قال تعالى :
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (٣))
قلت : الحسبان : قوة أحد النقيضين على الآخر ، كالظن ، بخلاف الشك ، فهو الوقوف بينهما. والعلم : هو القطع بأحدهما ، ولا يصح تعلقهما بمعاني المفردات ، ولكن بمضامين الجمل ، فلا أقول : حسبت زيدا ، وظننت الفرس ، بل حسبت زيدا قائما ، والفرس جوادا. والكلام الدال على المضمون ، الذي يقتضيه الحسبان هنا أن يتركوا مع قوله : (وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) أي : أحسبوا تركهم غير مفتونين لأن يقولوا : آمنا.
يقول الحق جل جلاله : (الم) الألف : لوحدة أسرار الجبروت ، واللام : لفيضان أنوار الملكوت ، والميم : لاتصال المادة بعالم الملك. فكأنه تعالى أقسم بوحدة جبروته وأنوار ملكوته واتصال مادته بملكه وخليقته ، أنه لا يدع دعوة مدع إلا ويختبره ؛ ليظهر صدقه أو كذبه ، وهذا معنى قوله : (أَحَسِبَ النَّاسُ) أي : أظن الناس (أَنْ يُتْرَكُوا) غير ـ مفتونين ومختبرين ، (أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) ؛ أظنوا أن يدّعوا الإيمان ولا يختبرون عليه ؛ ليظهر الصادق من الكاذب ، بل يمتحنهم الله بمشاق التكليف ؛ من مفارقة الأوطان ، ومجاهدة الأعداء ، ورفض الشهوات ، ووظائف الطاعات ، وبالفقر ، والقحط ، وأنواع المصائب فى الأموال والأنفس ، وإذاية الخلق ؛ ليتميز المخلص من المنافق ، والثابت فى الدين من المضطرب فيه ، ولينالوا بالصبر على ذلك عوالى الدرجات ، فإن مجرد الإيمان ، وإن كان عن خلوص قلب ، لا يقتضى غير الخلاص من الخلود فى العذاب ، وما
__________________
(١) الآيات : ٩ ـ ١١.