دنياكم ..» (١) ذكر منها الصلاة ، فهى دنيا لمن كان همه الدنيا ، وهى آخرة لأبناء الآخرة ، وهى صلة ومواصلة لأهل الله ـ عزوجل ـ ، وإنما سميت الصلاة ؛ لأنها صلة بين الله وعبده ، ولا تكون المواصلة إلا لتقى ، ولا يكون التقى إلا خاشعا ، فعند هذا لا يعظم عليه طول القيام ، ولا يكبر عليه الانتهاء عن المنكر ، كما قال الله : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ). ه.
ثم ذكر ما ينتج عن الصلاة الكاملة والذكر الدائم ، وهو الخلق الجميل ، فوصّى به ، حيث قال :
(وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٤٦))
يقول الحق جل جلاله : (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ؛ إلا بالخصلة التي هى أحسن ، أي : ألطف وأرفق ، وهى مقابلة الخشونة باللين ، والغضب بالكظم ، والمشاغبة بالنصح ، بأن تدعوه إلى الله تعالى برفق ولين ، وتبين له الحجج والآيات ، من غير مغالبة ولا قهر. وأصل المجادلة : فتل الخصم عن مذهبه بطريق الحجج ، وأصله : شدة الفتل ، ومنه قيل للصقر : أجدل ؛ لشدة فتل بدنه وقوة خلقه. والآية ؛ قيل : منسوخة بآية السيف (٢) ، وقيل : نزلت فى أهل الذمة.
(إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) ، فأفرطوا فى الاعتداء والعناد ، ولم يقبلوا النصح ، ولم ينفع فيهم الرفق ، فاستعملوا معهم الغلظة. وقيل : إلا الذين آذوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، أو : إلا الذين أثبتوا الولد والشريك ، وقالوا : يد الله مغلولة. أو معناه : ولا تجادلوا الذين دخلوا فى الذمة ، المؤدين للجزية ، إلا بالتي هى أحسن ، إلا الذين ظلموا : فنبذوا الذمة ، ومنعوا الجزية ، فمجادلتهم بالسيف. والآية تدل على جواز مناظرة الكفرة فى الدين ، وعلى جواز تعلم علم الكلام ،
__________________
(١) أخرج أحمد فى المسند (٣ / ١٢٨ ، ٢٨٥) والنسائي فى سننه (كتاب عشرة النساء ٧ / ١٦١) والحاكم فى المستدرك (النكاح ٢ / ١٦٠) وصححه على شرط مسلم ، وأقره الذهبي ، وكذلك أخرج أبو يعلى فى مسنده (٦ / ١٩٩ ـ ٢٠٠ ح ٣٤٨٢) كلهم من حديث أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «حبب إلىّ من الدنيا : الطيب والنساء ، وجعلت قرة عينى فى الصلاة» قال الحافظ ابن حجر : وليس فى شىء من طرقه : لفظ «ثلاث». انظر الفتح السماوي ١ / ٣٧٨ وعليه فالرسول لم يجعل الصلاة من أقسام الدنيا بل هى قرة عينه صلىاللهعليهوسلم وهذه درجة رفيعة فوق الشيئين اللذين حببا إليه من الدنيا ، وهما الطيب والنساء ، فهذا الشيئان ليس قرة عين له صلىاللهعليهوسلم ، لأنهما من الدنيا
(٢) قلت : كل ما هو من مكارم الأخلاق ، لا يجرى عليه النسخ ، فتمسك بهذا الأصل ، فحتى لو قاتلنا أهل الكتاب فى جهاد شرعى صحيح ، بشروطه. فتحن مأمورون بالعمل بهذه الآية حين نجادلهم ، إلا من ظلم .. فنعامله بما يستحق حتى يزول ظلمه ، فإن جادلناهم فبالتى هى أحسن أيضا.