ربّنا باعد بين أسفارنا حتى يظهر عزمنا وقوتنا ، وظلموا أنفسهم بذلك ، ففرقناهم عنا كل تفريق ، وعوّقناهم عن السير كل تعويق ، ليكون ذلك آية وعبرة لمن بعدهم ، فلا يخرجون عن مقام الاستضعاف والمسكنة ، والانكسار والذلة «أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلى».
وسبب الحرمان هو إبليس ، كما قال تعالى :
(وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٠) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٢١))
يقول الحق جل جلاله : (وَلَقَدْ صَدَّقَ) (١) (عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) ، الضمير فى «عليهم» لكفار سبأ وغيرهم. وكأن إبليس أضمر فى نفسه حين أقسم : (لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) (٢) أنه يسلط عليهم ، وظن أنه يتمكن منهم ، فلما أغواهم وكفروا صدق ظنه فيهم. فمن قرأ بالتخفيف ف «ظنه» : ظرف ، أي : صدق فى ظنه. ومن قرأ بالتشديد فظنه مفعول به ، أي : وجد ظنه صادقا عليهم حين كفروا (فَاتَّبَعُوهُ) أي : أهل سبأ ومن دان دينهم ، (إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ، قللهم بالإضافة إلى الكفار ، قال تعالى : (وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) (٣) وفى الحديث : «ما أنتم فى أهل الشرك إلا كشعرة بيضاء فى جلد ثور أسود» (٤).
(وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ) أي : ما كان لإبليس على من صدق ظنه عليهم من تسلط واستيلاء بالوسوسة ، (إِلَّا لِنَعْلَمَ) موجودا ما علمناه معدوما (مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍ) أي : إلا ليتعلق علمنا بذلك تعلقا تنجيزيا ، يترتب عليه الجزاء ، أو : ليتميز المؤمن من الشاك ، أو : ليؤمن من قدّر إيمانه ، ويشك من قدر ضلاله. (وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) ؛ محافظ رقيب ، وفعيل ومفاعل أخوان.
الإشارة : كل من لم يصل إلى حضرة العيان صدق عليه بعض ظن الشيطان ؛ لأنه لما رأى بشرية آدم مجوفة ، ظن أنه يجرى معه مجرى الدم ، فكل من لم يسد مجاريه بذكر الله ، حتى يستولى الذكر على بشريته ، فيصير قطعة من نور ، فلا بد أن يدخل معه بعض وساوسه ، ولا يزال يتسلط على قلب ابن آدم ، حتى يدخل حضرة
__________________
(١) قرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي «صدّق» بتشديد الدال. وقرأ الباقون بالتخفيف. انظر الإتحاف (٢ / ٣٨٦).
(٢) من الآية ٨٢ من سورة ص.
(٣) من الآية ١٧ من سورة الأعراف.
(٤) أخرجه مطولا البخاري فى (الرقاق ، باب الحشر ، ح ٦٥٢٨) ومسلم فى (الإيمان ، باب كون هذه الأمة نصف أهل الجنة ١ / ٢٠٠ ، ح ٢٢١) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.