سورة النّور (١)
مدنية. ووجه المناسبة لما قبلها : أن إقامة الحدود من أثر الرحمة التي ختم بها ما قبلها ؛ لأن بإقامة الحدود يقع الزجر عن المعاصي ، فتنزل الرحمة والعافية. قال أبو هريرة رضي الله عنه : (إقامة حدّ بأرض خير لأهلها من مطر أربعين ليلة) (٢).
وقيل : لمّا ذكر تعالى فى مشركى قريش : (وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ) ؛ أي : أعمال سيئة (هُمْ لَها عامِلُونَ) (٣) ، ثم استطرد بعد ذلك فى أحوالهم ، كان من أعمالهم السيئة : الزنا ، وكان لهم جوار بغايا عليهن ، ويأكلون من كسبهن من الزنا ، فأنزل الله هذه السورة ؛ تغليظا فى أمر الزنا. ه. وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «لا تنزلوا النساء الغرف ، ولا تعلموهنّ الكتابة ، وعلّموهنّ سورة النور والغزل» (٤) أي : أحكام السورة ؛ لينزجرن عن الزنا.
وسميت سورة النور ؛ لقوله : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (٥) ، وحقيقة النور : ما تنكشف به حقيقة الأشياء على ما هى عليه ، فالنور الظاهر الحسى تنكشف به الأشياء الحسية ، والنور الباطن تنكشف به الأشياء الباطنية ، كمعرفة الذات الأقدس ، وما يقرب إليها من آداب العبودية. ومرجعه إلى ثلاثة : نور معرفة أحكام المعاملة ، ونور اليقين ، ونور المكاشفة. فالأول : نور الإسلام ، وهو كنور النجوم ، والثاني : نور الإيمان ، وهو كنور القمر ، والثالث : نور الإحسان ، وهو كنور الشمس. ويسمى الأولان : نور التوجه ، والثالث : نور المواجهة. وتتفاوت هذه الأنوار على قدر التوجه والتفرغ من شواغل الحس ، فإذا أشرقت شمس العرفان لم يبق لنور النجوم ولا للقمر أثر ؛ لمحو وجود الأكوان فى محل العيان ، فصار الغيب شهادة ، والتصديق معاينة ، فانطوى الإيمان فى وجود العيان.
ولمّا كانت التقوى أساس الطريق لهذا المقام ، الذي هو نور الإيمان ، تكلم الحق تعالى فى أول السورة على أهم ما يتقى ، وهو الزنا وما يؤدى إليه من النظر والاطلاع على عورات النساء ، فقال :
__________________
(١) أول المجلد الثالث من النسخة الأم.
(٢) أخرجه ابن حبان فى صحيحه (٤٣٨١) وأخرجه بنحوه ، ابن ماجه فى (الحدود باب : اقامة الحدود ، ٢ / ٨٤٨ ، ح ٢٥٣٨) ، من حديث أبى هريرة رضي الله عنه ، وأخرجه ابن ماجه فى الموضع نفسه (ح ٣٥٣٧) والنسائي (٨ / ٧٦) من حديث ابن عمر رضي الله عنه.
(٣) من الآية ٦٣ من سورة «المؤمنون».
(٤) أخرجه البغوي فى تفسيره (٦ / ٦٨) ، والحاكم فى المستدرك (٢ / ٣٩٦) وصححه ، وتعقبه الذهبي ، فقال : (بل موضوع ، وآفته : عبد الوهاب ، قال أبو حاتم : كذاب) ، وقال الهيثمي فى المجمع (٤ / ٩٣) : رواه الطبراني فى الأوسط (ح ٥٧١٣) ، وفيه محمد بن إبراهيم الشامي. قال الدارقطني : كذّاب.
(٥) الآية ٣٥ من السورة.