ثم قال تعالى : (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ) ، «من» الأولى : لابتداء الغاية ، والثانية : بدل من الأولى ، والثالثة : لبيان الجنس ، أي : ينزّل البرد ، وهو الثلج المكور ، من السماء ، أي : الغمام العلوي ، فكل ما علاك سماء ، من جبال فيها كائنة من البرد ، ولا غرابة فى أن الله يخلق فى السماء جبال برد كما خلق فى الأرض جبال حجر.
قال ابن جزى : قيل : إن الجبال هنا حقيقة ، وإن الله جعل فى السماء جبالا من برد ، وقيل : إنه مجاز ، كقولك : عند فلان جبال من مال أو علم ، أي : هن فى الكثرة مثل الجبال. ه. وأصله لابن عطية. وقال الشيخ أبو زيد الثعالبي : حمل اللفظ على حقيقته أولى ، إن لم يمنع من ذلك مانع. ه. يعنى : ولا مانع هنا ، فيحمل على ظاهره ، وإن الله خلق جبال برد فى السماء. وقال الهروي عن ابن عرفة ـ يعنى اللغوي ـ : سمعت أحمد بن يحيى يقول : فيه قولان : أحدهما : وينزل من السماء بردا من جبال فى السماء من برد ، والآخر : وينزل من السماء أمثال الجبال من البرد. ويقال : إنما سمى بردا ؛ لأنه يبرد وجه الأرض أي : يقشره. ه.
قال البيضاوي : إن الأبخرة إذا تصاعدت ولم يتخللها حرارة ، فبلغت الطبقة الباردة من الهواء ، وقوى البرد هناك ، اجتمع وصار سحابا ، فإن لم يشتد البرد تقاطر مطرا ، وإن اشتد ، فإن وصل إلى الأجزاء البخارية قبل اجتماعها ، نزل ثلجا ، وإلّا نزل بردا ، وقد يبرد الهواء بردا مفرطا فينقبض ، وينعقد سحابا ، وينزل منه المطر أو الثلج. وكل ذلك لا بد وأن يسند إلى إرادة الواجب الحكيم ؛ لقيام الدليل على أنها الموجبة لاختصاص الحوادث بمحالّها وأوقاتها ، وإليه أشار بقوله : (فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ) والضمير للبرد. ه. أي : فيصيب بذلك البرد من يشاء أن يصيبه به ، فيناله ما ناله من ضرره فى بدنه وماله ؛ من زرع أو غيره. (وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ) أن يصرفه عنه ، فينجو من غائلته.
(يَكادُ سَنا بَرْقِهِ) أي : ضوء برق السحاب ، الموصوف بما مر من الإزجاء والتآلف. وإضافة البرق إليه ، قبل الإخبار بوجوده ، فيه إيذان بظهور أمره واستغنائه عن التصريح به. وقيل : الضمير للسماء ، وهو أقرب ، أي : يكاد ضوء برق السماء ، ويحتمل أن يعود على «الله» تعالى ؛ لتقدم ذكره ، أي : يكاد ضوء برقه تعالى (يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ) ، أي : يخطفها من فرط الإضاءة ، وسرعة ورودها ، ولو عند إغماضها. (يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) أي : يصرفهما بالتعاقب ، فيأتى هذا بعد هذا ، أو ينقص أحدهما وزيادة الآخر ، أو بتغيير أحوالهما بالحر والبرد وغيرهما.
(إِنَّ فِي ذلِكَ) ، الإشارة إلى ما فصل آنفا ، أي : إن فى إزجاء السحاب ، وإنزال الودق ، وتقليب الليل والنهار ،