يقول الحق جل جلاله : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) أي : يمنعهما من أن تزولا ؛ لأن إمساكهما منع. والمشهور عند المنجمين : أن السموات هى الأفلاك التي تدور دورة بين الليل والنهار. وإنكار ابن يهود على كعب ، كما فى الثعلبي ، تحامل ؛ إذ لا يلزم من دورانها عدم إمساكها بالقدرة ، وانظر عند قوله : (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ..) (١) قال القشيري : أمسكهما بقدرته ، وأتقنهما بحكمته ، وزينهما بمشيئته ، وخلق أهلهما على موجب قضيته ، فلا شبيه فى إبقائهما وإمساكهما يساهمه ، ولا شريك فى إيجادهما وإعدامهما يقاسمه. ه.
(وَلَئِنْ زالَتا) ، على سبيل الفرض ، (إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ) ، من بعد إمساكه. و «من» الأولى : مزيدة ، لتأكيد النفي ، والثانية : ابتدائية ، (إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) ، غير معاجل بالعقوبة ، حيث أمسكهما على من يشرك به ويعصيه ، وكانتا جديرتين بأن تهدّ هدّا ، كما قال : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ ..) (٢) الآية.
الإشارة : الوجود قائم بين سماء القدرة وأرض الحكمة ، بين سماء الأرواح وأرض الأشباح ، بين سماء المعاني وأرض الحس ، فلو زال أحدهما لاختل نظام الوجود ، وبطلت حكمة الحكيم العليم. الأول : عالم التعريف ، والثاني : عالم التكليف. الأول : محل التنزيه ، والثاني : محل التشبيه ، الأول : محل أسرار الذات ، والثاني : محل أنوار الصفات ، مع اتحاد المظهر ؛ إذ الصفات لا تفارق الموصوف ، فافهم. وفى بعض الأثر : «إن العبد إذا عصى الله استأذت السماء أن تسقط عليه من فوقه ، والأرض أن تخسف من تحته ، فيمسكهما الله تعالى بحلمه وعفوه ، ثم تلى الآية : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) إلى قوله : (كانَ حَلِيماً غَفُوراً)» ه. بالمعنى.
ثم ذكر عناد قريش وعتوهم ، تتميما لقوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ ..) إلخ ، فقال:
(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤٢) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً (٤٣) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (٤٤))
__________________
(١) الآية ٣٨ من سورة يس.
(٢) الآية ٩٠ من سورة مريم.