قلت : «جهد» : نصب على المصدر ، أو على الحال. و «استكبار» و «مكر» : مفعول من أجله أو حال.
يقول الحق جل جلاله : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) أي : إقساما وثيقا ، أو : جاهدين فى أيمانهم : (لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ) ؛ رسول (لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) المهتدية ، بدليل قوله : (أهدى) وقوله فى سورة الأنعام : (لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ) (١) وذلك أن قريشا قالوا قبل مبعث النبي صلىاللهعليهوسلم لمّا بلغهم أن أهل الكتاب كذّبوا رسلهم : لعن الله اليهود والنصارى ، أتتهم الرسل فكذبوهم ، فو الله لئن أتانا رسول لنكونن أهدى من إحدى الأمم (٢) ، أي : من الأمة التي يقال فيها : هى أهدى الأمم ، تفضيلا لها على غيرها فى الهدى والاستقامة. كما يقال للداهية العظيمة : هى أهدى الدواهي. فلما بعث رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، (ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً) أي : ما زادهم مجىء الرسول صلىاللهعليهوسلم إلا تباعدا عن الحق ، وهو إسناد مجازىّ ؛ إذ لا فاعل غيره.
(اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ) أي : ما زادهم إلا تهورا للاستكبار ومكر السيّء. أو : مستكبرين وماكرين برسول الله صلىاللهعليهوسلم والمؤمنين ، المكر القبيح ، وهو إجماعهم على قتله. عليه الصلاة والسلام ، وإذاية من تبعه. وأصل قوله : (ومكر السيئ) : وأن مكروا المكر السيّء ، فحذف الموصوف استغناء بوصفه ، ثم أبدل «أن» مع الفعل بالمصدر ، ثم أضيف إلى صفته اتساعا ، كصلاة الأولى ، ومسجد الجامع. (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) أي : لا يحيط وينزل المكر السيّء إلا بمن مكره ، وقد حاق بهم يوم بدر. وفى المثل : من حفر حفرة وقع فيها.
(فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ) : ما ينتظرون إلا أن ينزل بهم ما نزل بالمكذبين الأولين ، من العذاب المستأصل ، كما هى سنّة الله فيمن كذّب الرسل. (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً ، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً) ، بيّن أن سنّته ـ التي هى الانتقام من مكذّبى الرسل ـ سنّة ماضية ، لا يبدلها فى ذاتها ، ولا يحوّلها عن وقتها ، وأنّ ذلك مفعول لا محالة.
(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ممن كذّبوا رسلهم ، كيف أهلكهم الله ودمرهم ، كعاد ، وثمود ، وقرى قوم لوط. استشهد عليهم بما كانوا يشاهدونه فى مسايرهم إلى الشام واليمن والعراق ، من آثار الماضين ، وعلامات هلاكهم ودمارهم. (وَ) قد (كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) واقتدارا ، فلم يتمكنوا من الفرار ، (وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ) ؛ ليسبقه ويفوته (مِنْ شَيْءٍ) أىّ شىء كان (فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً) بأحوالهم (قَدِيراً) على أخذهم. وبالله التوفيق.
__________________
(١) من الآية ١٥٧ من سورة الأنعام.
(٢) قاله الضحاك ، فيما ذكره ابن كثير فى تفسيره (٣ / ٥٦٢).