يقول الحق جل جلاله : (فَإِنَّكُمْ) أيها المشركون (وَما تَعْبُدُونَ) أي : ومعبوديكم ، (ما أَنْتُمْ) وهم جميعا (عَلَيْهِ) ؛ على الله (بِفاتِنِينَ) ؛ بمضلّين ، (إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ) أي : إلا من سبق فى علمه أنه من أهل النار. والمعنى : إنكم لستم تضلّون أحدا إلا أصحاب النار ، الذين سبق فى علمه أنهم يستوجبون بأعمالهم النار ، يقال : فتن فلان على فلان امرأته : أفسدها عليه. وقال الحسن : فإنكم أيها القائلون لهذا القول والذي تعبدونه من الأصنام ، ما أنتم على عبادة الأصنام بمضلّين أحدا ، إلا من أوجبت عليه الضلال فى السابقة. ه. وفيها دليل للقدر ، بل هى صريحة فيه. و «ما» فى «أنتم» : نافية ، و «من» : فى موضع النصب بفاتنين ، على الاستثناء المفرغ ، أي : لا تفتنون إلا الذي هو صالى الجحيم. وحذفت الياء فى الرسم اكتفاء بالكسرة ، وقرأ الحسن : «صال الجحيم» بضم اللام ـ ووجهه : أنه جمع ، فحذفت النون للإضافة. والواو لالتقاء الساكنين ، و «من» مفرد فى اللفظ ، جمع فى المعنى ، فحمل «هو» على اللفظ ، و «الصالون» على المعنى.
الإشارة : ويقال لمن يرغّب الناس فى الدنيا ، ويدلهم على جمعها ، والاعتناء بها ، بمقاله ، أو بحاله ، ويزهّد فى طريق التجريد والانقطاع إلى الله : ما أنتم بفاتنين أحدا عن طريق الله ، إلا من سبق أنه يصلى نار القطيعة والبعد ، وأما من سبقت له سابقة الوصال ، فلا يصده عن الله فاتن ولا ضال. ولا شك أن من يدلّ الناس على الدنيا فقد غشهم. قال القطب ابن مشيش رضي الله عنه : من دلّك على الدنيا فقد غشك ، ومن دلّك على العمل فقد أتبعك ، ومن دلك على الله فقد نصحك. ه. فالدلالة على الدنيا من شأن المغرورين ، ورين الفاتنين ، والدلالة على العمل من شأن الصالحين ، الواقفين مع ظاهر الشريعة وعملها ، والدلالة على الله من شأن العارفين أهل التربية ، يدلون على الله ، بسقى الكؤوس ، ونسيان النفوس ، ودخول حضرة القدوس ، من باب الكرم والجود. وبالله التوفيق.
ثم رجع إلى الكلام على الملائكة ، فقال :
(وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (١٦٦))
يقول الحق جل جلاله : حاكيا عن الملائكة : (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) فى العبادة ، أو : فى السموات ، نعبد الله فيه ، أو : فى القرب والمشاهدة لا نتعداه ، ولا نترقى عنه إلى غيره ، ففيه تنبيه واعتراف بافتقارهم لمخصصهم ، القاضي بحدوثهم. وفى اعترافهم بذلك ردّ على زعم الكفار أنهم بنات الله ، أو شركاء له ، وتنزيه له تعالى عن ذلك ؛ لتنافى العبودية والطاعة التي اعترفوا بها ، والبنوة المدّعاة من الكفار ، تعالى الله عن قولهم. وهذا