(لِيَسْتَأْذِنْكُمُ) ؛ لأن الأطفال غير مخاطبين ولا متعبدين. ه. قلت : فالمخاطبون فى الأولى هم الأولياء بتعليمهم الاستئذان وإيصائهم به ، وهنا صاروا بالغين ، فأمرهم بالاستئذان (كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي : الذين بلغوا الحلم من قبلهم ، وهم الرجال المذكورون فى قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ ...) (١) الآية. والمعنى : أن الأطفال مأذون لهم فى الدخول بغير إذن ، إلا فى العورات الثلاث ، فإذا اعتاد الأطفال ذلك ثم بلغوا الحلم وجب أن يفطموا عن تلك العادة ، ويحملوا على أن يستأذنوا فى جميع الأوقات ، كالرجال الكبار الذين لم يعتادوا الدخول عليكم إلا بإذن.
والناس عن هذه غافلون. عن ابن عباس رضي الله عنه : ثلاث آيات جحدهن الناس : الإذن كله ، وقوله : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) (٢) ، وقوله : (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ ..) (٣). وعن سعيد بن جبير : (يقولون : إنها منسوخة ، والله ما هى بمنسوخة) (٤). وعن ابن عباس أيضا قال : إنما أمروا بها حين لم يكن للبيوت الستر ، فلما وجدوا ذلك استغنوا عن الاستئذان. وعن أبى محمد مكى : هذا الأمر إنما كان من الله للمؤمنين ؛ إذ كانت البيوت بغير أبواب. قلت : أما باعتبار الأجانب فالأبواب تكفى ، وأما باعتبار المماليك والأطفال الذين يلجون الدار من غير حجر ؛ فلا تكفى الأبواب فى حقهم ، فلا بد من الاستئذان كما فى الآية.
(كَذلِكَ) أي : مثل ذلك البيان العجيب (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ). قال ابن عرفة : قال قبل هذه وبعدها : الآيات ، وفى هذه : آياته ؛ لوجهين ، الأول : هذه خاصة بالأطفال ، وما قبلها عامة فى العبيد والأطفال ، فأطلقت الآية ، ولم تقيد بالإضافة ، وهذه خاصة ، فعبّر عنها بلفظ خاص. الثاني : أن الخطاب بما هنا للبالغين ، فأسند فيه الحكم إلى الله تعالى ، تخويفا لهم وتشديدا عليهم. ه. والمتبادر أنه تفنن. قاله المحشى الفاسى. (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) فيما أمر ودبر.
الإشارة : إنما أمر الله بالاستئذان لئلا يكشف السر إلى غير أهله ؛ غيرة منه تعالى على كشف أسرار عباده ، وإذا كان غار على كشف سر عبده ، فغيرته على كشف أسرار ذاته أولى وأحرى ، فيجب كتم أسرار الذات عن غير أهله ، وكل من خصه الله بسر وجب كتمه إلا على من هو أهل له ، وهو من أعطى نفسه وماله ، وباعهما لله تعالى. وكل من أطلع على سر من سرار الله أو قضاء من قضائه ، ثم استشرف أن يعلم الناس بذلك فهو كذاب. وفى الحكم : «استشرافك أن يعلم الخلق بخصوصيّتك دليل على عدم صدقك فى عبوديتك». وبالله التوفيق.
__________________
(١) الآية ٢٧ من سورة النور.
(٢) الآية ١٣ من سورة الحجرات.
(٣) الآية ٨ من سورة النساء. والخبر عزاه ابن كثير فى التفسير (٣ / ٣٠٣) لابن أبى حاتم.
(٤) أخرجه الطبري (١٨ / ١٦٣).