وكان ينتشر الاعتزال في السيرجان من كور كرمان (١).
٣ ـ الأحوال الثقافية في هذه المنطقة :
تعدد مراكز الثقافة في المشرق العجمى العباسى :
أدى ضعف الخلافة العباسية إلى قيام دول إسلامية متعددة في هذه المنطقة تعترف بالخلافة ولكنها مستقلة تماما ، والدولة منها تصغر وتكبر بحسب قوة جيرانها ، وقد رأينا أن إحداها قد بلغت من القوة مبلغا استطاعت معه غزو الهند.
وبتعدد العواصم الإسلامية تعددت المراكز والعواصم الثقافية أيضا ، وظهرت في كل منها معالم حضارية لها كيانها الثقافى المتميز. فما حدث على الصعيد الثقافى كان هو عكس المنتظر من اللامركزية الإدارية أو السياسية التى كان ينتظر أن تفرض نوعا من العزلة الثقافية على البلاد التى تهيمن عليها الدولة. والسر في انهيار الحواجز الثقافية أن طبيعة الثقافة الإسلامية هى طبيعة عالمية تستلزم التبادل والتعاون بصفة دائمة في هذه الميادين بين المشتغلين والمهتمين بالعلوم والثقافة ؛ لذا كانت الرحلة في طلب العلم من مقومات الحياة الدراسية في جميع أنحاء العالم الإسلامى. يقول ابن خلدون : «ومن تشوف بفطرته إلى العلم ممن نشأ في القرى والأمصار غير المتمدنية ... لا بد له من الرحلة (٢) ـ فى طلبه ـ إلى الأمصار المستبحرة في شأن الصنائع كلها. واعتبر ما قررناه بحال بغداد وقرطبة والقيروان والبصرة والكوفة لما كثر عمرانها في صدر الإسلام ، واستقرت فيها الحضارة كيف زخرت فيها بحار العلم وتفننوا في اصطلاحات التعليم وأصناف العلوم واستنباط المسائل والفنون ... ولما تناقص عمرانها وانذعر سكانها انطوى ذلك البساط بما عليه جملة ، وفقد بها العلم والتعليم وانتقل إلى غيرها من أمصار الإسلام» (٣).
فكانت المرحلة الأولى من مراحل طلب العلم تبدأ داخل حدود الوطن ، فإذا ما فرغ الدارس من استقصاء المادة العلمية في بلده ووطنه بدأ المرحلة الثانية على مستوى أرفع وهى المرحلة في طلب العلم وتلقيه عن كبار الأئمة في العالم الإسلامى كلّ في تخصصه. وبعد إجازته من كل إمام أنهى دراسته على يديه ، يعود إلى وطنه حاملا إجازات أستاذيته من عشرات أو مئات الأئمة في جميع البلدان التى زارها ، وحينئذ يبدأ هو دوره في تخريج جيل من العلماء في تخصصه في الوطن الذى استقر فيه.
__________________
(١) المقدسى : أحسن التقاسيم : ٤٦٤.
(٢) قد يوهم هذا أن طلب الرحلة قاصر على من كان من القرى أو الأمصار غير المتمدنية ، مع أن السبب في الرحلة هو طلب المتبحرين فى العلوم والفنون فتساوى في طلب الرحلة من كان من مصر متمدن أو غير متمدن.
(٣) ابن خلدون : المقدمة : ٣٨٠.