ففي الآية السابقة كان الحديث يدور حول «سلب العبث» من خلق الإنسان ، وفي هذه الآية يدور الحديث حول «حقّانية» خلق كلّ العالم ، وكلاهما يرميان نحو هدف واحد ، وهو إنّ الحياة الدنيا إذا ماجردت عن الحياة الآخرة فإنّها سوف تكون أمراً باطلاً لاغرض منه وخالياً من كل معنى ، وهذا ممّا لا يصدر عن الحكيم أبداً.
وجاء في تفسير الميزان : إنّ المراد من الحق في هذه الآية هو ما قابل اللعب والباطل ، والدليل على ذلك هو جملة (وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ) ، وتفسير «الحق» بمعنى «العدل والانصاف» غير صحيح (١).
والجدير بالالتفات هو أنّ الله تعالى أمر رسوله بالعفو والصفح ... ذلك الصفح الجميل الخالص الذي لا يشوبه حتى اللوم والعتاب ، قال تعالى : (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الجَميِلَ). (الحجر / ٨٥)
ومن المحتمل أن يكون هذا التعبير إشارة إلى هذا المعنى وهو : يا أيّها النبي بما أنّ الهدف من الخلق هو تربية البشر وإعدادهم لمرحلة الآخرة ، فعليك أن تراعي جميع اسس التربية التي يعتبر الصفح والعفو والرأفة واللين من ضمنها ، وبالأخص مراعاة ذلك مع الجهلة والمتعصبين.
ومن الجدير بالذكر أيضاً أنّ مفهوم الآية الاولى هو إن لم تكن هناك آخرة فإنّ خلق الإنسان يكون «من العبث» ، ومفهوم الآية ، الثانية (طبقاً للتفسير المذكور أعلاه) هو : إن لم تكن هناك آخرة فإنّ خلق كل العالم يكون باطلاً وعبثاً ، فمن المحتمل أن يكون السبب في ذلك هو بيان سمو ثمرة الخلق وهي الإنسان وسمو شجرة الخلق وهي العالم ، فإن لم تكن هناك حياة خالدة تتمثل في الآخرة فسوف يكون خلق «الثمرة» و «الشجرة» كلاهما أمراً عبثاً وغير هادف.
والمراد من تعبير «ما بينهما» شمول جميع أصناف الملائكة وكذلك النور والحرارة والسحاب والهواء وأنواع الغازات ، بل تشمل في أحد أبعادها اصناف الموجودات التي تعيش على وجه الأرض من البشر وجميع أنواع الحيوانات الاخرى والنباتات.
__________________
(١) تفسير الميزان ، ج ١٢ ، ص ١٩٩.