والآية الخامسة تتضمّن ما جاء على لسان سحرة فرعون عندما آمنوا بموسى عليهالسلام ، بعد أن هددهم فرعون بالعذاب الأليم والتقتيل ، قال تعالى نقلاً عن لسانهم : (فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِى هَذِهِ الحَيَاةَ الدُّنْيَا* إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيرٌ وَأَبْقَى).
إنّ الإيمان بالقيامة وعدم الإكتراث بقيمة الحياة الدنيا ، دفع بالسحرةِ الفراعنة أن يمارسوا أقوى درجات الإيثار والتضحية ، فقد صرفوا أنظارهم عن جميع ما أعدّه لهم فرعون من الهدايا ، وصرفوا أنظارهم عن جميع الماديّات وذهبوا لاستقبال القتل والتنكيل ، ووقفوا بكل صلابة أمام استفزازات ذلك الطاغية الجبّار ، وشربوا شهد الشهادة بكل شجاعة.
أجل عندما يبرق الإيمان بالمعاد في القلوب ، فإنّه يؤجج النّار فيها بنحوٍ لا ينفع معه أيّ تهديد ، فيفقد كل شيٍ أهميته في نظر الإنسان إلّاالله ولقاء الآخرة ونعيمها الخالد.
إنّ هذا الإيمان القوي المتقد بدّلَ السحرة الذين كانوا بالأمس عبيد الدنيا وكانوا أذلة متملقين بدّلهم اليوم وحولهم إلى رجال أقوياء وشجعان صامدين (١).
والتعبير بـ (الحَيَاةَ الدُّنْيَا) هو دليل على إيمانهم بالحياة الآخرة الخالدة السامية ، والآيات التي تتلو هذه الآية أيضاً قد صرحت بوضوح أكثر على إيمان هؤلاء بالدار الآخرة ومحكمة العدل الإلهي ، والجنّة والسعير والدرجات المختلفة لأصحاب الجنّة وأنواع النعم الخالدة في الجنّة.
* * *
إنكار المعاد هو السبب الرئيسي لاقتحام الفجور :
اشير في الآيات الخمس السابقة إلى الآثار الإيجابية للإيمان بالمعاد والحياة بعد الموت
__________________
(١) ذُكِرَ في تفسير جمله «والذي فطرنا» احتمالان الأول أنّ الجملة تدل على القسم ـ كما ذكرنا في تفسيرها أعلاه ـ والثاني أنّ الجملة معطوفة على جملة سابقة ، ففي هذه الحالة يصبح المعنى بهذا النحو : «قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات وعلى الذي فطرنا» لكنّ المعنى الأول أقرب على الأخص إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ السحرة في عدّة آيات كانوا يقسمون بعزّة فرعون ، وهنا أقسموا بخالق جميع البشر!.