٥٦ ـ يوماً يجعلُ الولدان شيباً
هذا التعبير الذي ورد ذكره في القرآن المجيد مرّة واحدة تصوير أو تجسيد آخر للوقائع المروّعة لذلك اليوم العظيم ، فقد خاطب الكفار والمشركين فقال تعالى : (فَكَيَفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفْرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً) (١) ـ (٢). (المزّمل / ١٧)
إنّ هذا التعبير من أبلغ التعابير التي تميط اللثام عن الوقائع المرعبة لذلك اليوم كما تؤثِّر تلك الوقائع على عالم الطبيعة وعلى الجبال والصحراء وتجعلها هباء وتؤثر كذلك في هذا الإنسان الترابي بحيث الاضطراب والخوف والانقباض إلى درجة تشيبُ الولدانُ من هولها.
وحمل بعض المفسرين هذا التعبير على معناه الحقيقي أي أنّ آثار المشيب تظهر على الأطفال حقيقة وإن كانت الفاصلة الزمنية بين الطفولة والمشيب كبيرة ، وجاءوا لإثبات ذلك بأدلة أيضاً ، فإننا في هذه الدنيا نشاهد أفراداً يبيضُّ شعر رؤوسهم خلال عدّة أيّام أو حتى لعدّة ساعات من شدّة المصاب الذي يحلّ بهم ، فإن كان بوسع أحداث هذه الدنيا أن تؤثر مثل هذا التأثير على الإنسان فإنّ وقائع المحشر التي هي أشدّ وأصعب كثيراً ستؤثر مثل هذا التأثير لا محالة.
ولكنَّ جمعاً من المفسرين حملوه على المعنى المجازي لأنّ مثل هذه الكناية من الامور الشائعة على ألسنة العرب وغيرهم ، فإنّهم من أجل بيان عظمة احدى الشدائد يقولون : «شيبني هذا الأمر»!
وكلا التفسيرين وجيه بالنسبة لهذه الآية ، أمّا ما قيل بأنّ مشيب الأطفال يحصل من طول ذلك اليوم فهذا بعيد ، لأنّ هذه الآية مثل كثير من الآيات الاخرى المختصة بالقيامة ناظرة إلى الوقائع المروعة لذلك اليوم ، والآيات السابقة لهذه الآية والتي تتحدث عن دَكِّ الجبال تصلح دليلاً مؤيداً لهذا القول.
__________________
(١) يرى جمع من المفسرين أنّ «يوماً» الذي جاء في الآية المذكورة أعلاه هو ظرف ل «يتّقون» ، ولكن احُتمِل بأنّه «مفعول به» ليّتقون ، ففي هذه الصورة قدّروا كلمة عذاب في الآية فتصبح الآية على هذا بهذه الصورة : فكيف تتقون إن كفرتم (عذاب) يوم يجعل الولدان شيباً.
(٢) «شيب» على وزن (فِعْل) جمع «أشْيَب» بمعنى الشيخ المُسِن ، ومادة شَيب على وزن (فَعْل) بمعنى تغيّر لون الشعر من الاسود إلى الابيض.