وإن شئت فقل : إن دعوى استقلال العقل بإتيان العمل على وجه القربة تحصيلا للفراغ اليقيني ، بلا حاجة إلى الأمر المولوي ، إنّما تصحّ لو كان الاشتغال أمرا ضروريّا مسلّما عند الكلّ ، مع أنّه في المورد ليس كذلك ؛ ولذا اختلفت فيه الآراء ، فذهب بعض إلى الاشتغال ، وبعض آخر إلى البراءة وهو الحقّ ، كما سيجيء تحقيقه. هذا تمام الكلام في المورد الثّالث.
(المورد الرّابع : دوران الواجب بين التّعبّدي والتّوصّلي)
إذا شكّ في مورد أنّه يعتبر فيه قصد الأمر أو لا ، فهل يمكن التّعيين بالأصل أم لا؟ فالكلام هنا يقع تارة في مقتضى الأصل اللّفظي ، واخرى في مقتضى الأصل العملي.
أمّا الأصل اللّفظي ، فلا ريب في أنّ مقتضاه هو التّوصّليّة وعدم اعتبار القصد. بتقريب : أنّ التّعبّديّة ممّا يحتاج إلى بيان ومئونة زائدة ؛ وحيث إنّ المولى ـ مع كونه في مقام بيان قيد المأمور به وخصوصيّته ـ أطلق ولم يبيّن القيد ، يؤخذ بإطلاق كلامه ويحكم بالتّوصّليّة وعدم لزوم قصد القربة في تحقّق الامتثال.
هذا ، ولكن ذهب جماعة (١) إلى أنّ قضيّة الأصل اللّفظي هي التّعبّديّة ، واستدلّوا له بوجوه ثلاثة :
الأوّل : أنّ الغرض من الأمر هو إيجاد الدّاعي في نفس المكلّف ؛ بحيث يدعوه ويبعثه إلى إتيان المأمور به ، فإن أتى به بدعوة أمره وباعثيّة طلبه ، حصل الغرض
__________________
(١) راجع ، محاضرات في اصول الفقه : ج ٢ ، ص ١٨٨ و ١٨٩.