أمّا على الأوّل : فلأنّ ورود الإرسال والتّقييد وإن يستلزم انقلاب الملحوظ آليّا ، استقلاليّا ، إلّا أنّه لا مانع منه ، بل هو من قبيل خلع صورة ولبس صورة اخرى مع انحفاظ المادّة ، فإنّ ذات المعنى بمنزلة المادّة ، واللّحاظ الآلي والاستقلاليّ بمنزلة الصّورة ، كما يتّفق ذلك كثيرا في الاستعمالات العرفيّة ، نظير استعمال الحروف الجارّة والاستفهاميّة في كلمة : «من أين» أو «إلى أين» أو «في أين» أو «على ما» ونحوها ، فإنّ هذه الاستعمالات حيث يكون الغرض منها هو خصوص السّؤال ، فلم يلاحظ الحروف ، إلّا بنحو الاستقلال.
وأمّا على الثّاني ، فلأنّ الآليّة وإن اخذت في نفس المعنى الحرفي ، ومن هذه الجهة لا يقبل الإطلاق والتّقييد ، إلّا أنّ المعنى الحرفي يلاحظ ثانيا بنحو الاستقلال ثمّ يقيّد ، كما هو كذلك في المعنى الاسمي ، نظير قولنا : «أكرم عالما» فعند إرادة تقييده بالعالم ـ مثلا ـ يلاحظ العالم ثانيا ثمّ يقيّد.
هذا كلّه مضافا إلى أنّه بناء على القول بأنّ الآليّة إنّما هي بنفس اللّحاظ يمكن أن يجاب ـ أيضا ـ بأنّ الإطلاق والتّقييد ليسا من الامور القهريّة ، بل من الامور المتقوّمة باللّحاظ ، فيتّبعان كيفيّة لحاظ ذات المعنى ، فإن كان بنحو الاستقلال ، فالإطلاق والتّقييد كذلك ، وإن كان بنحو الآليّة ، فهما كذلك ، وعليه ، فلا يستدعي كلّ من الإطلاق والتّقييد خصوص اللّحاظ الاستقلالي.
وكذلك بناء على القول المختار ، من أنّ الآليّة مأخوذة في ذات المعنى ، فيجاب ـ أيضا ـ بأنّ المعنى لمّا كان آليّا فالخصوصيّات الّتي اعتبارها يكون وجودا وسيعا أو ضيّقا آلي ذاتا ؛ لما مرّ مرارا ، من أنّ الآليّ بذاته آليّ في جميع وجوداته وبتمام اعتباراته. (١)
__________________
(١) راجع ، نهاية الدراية : ج ١ ، ص ٢٩٤ الى ٢٩٦.