واجيب عن هذا الإشكال ، بأنّ التّفقّه في تلك الأزمنة لم يكن بهذه الصّعوبة المتحقّقة في عصرنا (١) ، بل كان يصدق على كثير من الرّوات عنوان الفقيه ، حيث كانوا يعرفون معاني كلام المعصومين عليهمالسلام سيّما أصحاب الصّادقين عليهماالسلام ومن بعدهما عليهمالسلام وكانوا رواة فقهاء.
وبالجملة : الرّواة في العصور المتقدّمة كانوا من المتفقّهين في الدّين ومن المفتين وأرباب الفهم والدّراية والاجتهاد في الشّريعة ، نظير محمّد بن مسلم ، وزرارة وأمثالهما ، حيث قال أمامنا الصّادق عليهالسلام في حقّهم : «أنتم أفقه النّاس إذا عرفتم معاني كلامنا» (٢).
الجهة الرّابعة : أنّ ترتّب وجوب الحذر على الإنذار الّذي هو مترتّب على التّفقّه في الدّين ـ كما هو ظاهر الآية ـ يقتضي ترتّب وجوب الحذر على الإنذار بما تفقّهوا ، لا على مطلق الإنذار ، فلا بدّ للحاذر من إحراز كون الإنذار ، إنذارا بما تفقّه في الدّين ، بمعنى : إحراز مطابقة الخبر للواقع ، حتّى يجب عليه الحذر ، فيحذر ، فالحذر واجب لا مطلقا ، بل عند الإحراز والعلم بالمطابقة.
وفيه : أنّ الإخبار بالوجوب أو الحرمة يكون إنذارا بما تفقّه في الدّين وإن لم يكن هناك مطابقة. وعليه ، فالحذر المترتّب على الإنذار بما تفقّه في الدّين ، يجب وإن لم يحرز مطابقة الخبر للواقع.
__________________
(١) وجه الصّعوبة ، هو أنّ التّفقّه في العصور المتأخّرة لا يتأتّى إلّا بتنقيح جهات ثلاث في الرّوايات : الاولى : صدورها ؛ الثّانية. جهة صدورها ؛ الثّالثة : دلالتها وظهورها ؛ وأمّا العصور المتقدّمة فالمحتاج إليها للتّفقّه لم يكن إلّا إثبات الجهة الاولى (صدور الرّوايات) ، ولا يطلق الفقيه في تلك العصور إلّا على العارف بالأحكام ، سواء كان العرفان بها بإعمال الفكر والنّظر ، أم كان بدونه.
(٢) وسائل الشّيعة : ج ١٨ ، كتاب القضاء والشّهادات ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٧ ، ص ٨٤.