وذلك أنّه كان إذا أراد أن يدخل الخلاء دفع خاتمه إلى امرأة من نسائه كان يثق بها ، فدفعه إليها يوما ثمّ دخل الخلاء. فجاءها ذلك الشيطان في صورة سليمان ، فأخذ الخاتم منها. فلمّا خرج سليمان من الخلاء طلب الخاتم منها فقالت : قد أعطيتكه. فقال : أنشدك بالله أن تخونيني. وذهب الخبيث فقعد على كرسيّ سليمان ، وألقى عليه شبهه وهيئته. فخرج سليمان فإذا هو بالشيطان قاعد على كرسيّه. فذهب في الأرض وذهب ملكه. وجعل يستطعم إذا أصابه الجهد ويقول : أنا سليمان بن داوود ، فيكذّبونه ويستخفّون به ويطردونه ، حتّى كاد أن يموت من الجوع.
وقال مجاهد : كان يقول : لو عرفتموني لأطعمتموني ، أنا سليمان ، ويكذّبونه.
قال الكلبيّ : فلمّا انقضت المدّة ، ونزلت الرحمة عليه من الله ، ألقى الله في أنفاس الناس استنكار الشيطان. فمشوا إلى آصف ، أحد الثلاثة خزّان بيت المقدس ، فقالوا : يا آصف ، إنّا أنكرنا قضاء الملك وعمله ، فلا ندري أنكرت مثل الذي أنكرنا أم لا؟ قال : نعم ، ولكن سوف أدخل على نسائه ، فإن كنّ أنكرن مثل الذي أنكرنا فذلك أمر عامّ في الناس ، فاصبروا حتّى يكشف الله عنكم ، فإن لم ينكرن منه مثل الذي أنكرنا فهو أمر خصصنا به ، فادعوا الله لملككم بالصلاح. فانطلق آصف فدخل على نساء سليمان ، فسألهنّ عنه ، فقلن : إن كان هذا سليمان فقد هلكنا وهلكتم ، وقال مجاهد : فأنكرته أمّ سليمان.
قال الكلبيّ : فخرج آصف إلى الناس فأخبرهم ، فدعوا الله ربّهم أن يكشف عنهم. فلمّا رأى الشيطان الذي فيه الناس من الغفلة كتبوا سحرا كثيرا على لسان آصف ، ثمّ دفنوه في مصلّى سليمان وبيت خزائنه وتحت كرسيّه ، ثمّ أضربوا عنه. وفشا الاستنكار من الناس للشيطان ، وانقضت أيّامه ، ونزلت الرحمة من الله لسليمان. فعمد الشيطان إلى الخاتم فألقاه في البحر ؛ فأخذه حوت من حيتان البحر.
وكان سليمان يؤاجر نفسه من أصحاب السفن بنقل السمك من السفن إلى البرّ على سمكتين كلّ يوم. فأخذ في حقّه يوما سمكتين ، فباع إحداهما برغيفين ؛ وأمّا الأخرى فشقّ بطنها وجعل يغسلها ، فإذا هو بالخاتم ، فأخذه ، فالتفت إليه الملّاحون فعرفوه ، فأقبلوا إليه ، فسجدوا له. وكذلك تحيّة من كان قبلكم ، كانت تحيّتهم السجود ، وجعل الله تحيّة هذه الأمّة السّلام ، وهي تحيّة أهل الجنّة.