لكن المرحوم الشيخ الطوسي في «التبيان» والشيخ الطبرسي في «مجمع البيان» سبقاه في التوجّه إلى هذه الملاحظة وأشارا إليها بعبارة مختصرة واضحة.
إنّ كتابنا السماوي القرآن الكريم يحتوي في الحقيقة على قسمين من العلوم ، فالقسم الأوّل هو من المعارف التي يمكن أن تكتسب عن طريق الاستدلال العقلي ، وإن كان القرآن قد عرض هذا القسم بشكل أكمل وأكثر اطمئناناً من الاستدلال العقلي.
والقسم الآخر يستحيل اكتسابه بغير الوحي كما تقدّم ، وهو الذي تمّ الاستناد إليه في الجملة الأخيرة (كالكثير من الحقائق المرتبطة بعالم ما بعد الموت والقيامة) ، أو التواريخ المعتبرة للأقوام والأنبياء عليهمالسلام السابقين والتي ضاعت على مرّ الزمن ، وكذلك العلوم والمعارف التي حجبت عن أنظار المفكّرين في ذلك الزمان على أقلّ تقدير.
* * *
٣ ـ إقامة القسط والعدل
تمّت الإشارة في الآية الرابعة بشكل عامّ إلى أحد الأغراض الرئيسية من بعثة الأنبياء عليهمالسلام ألا وهو إقامة العدالة الاجتماعية ، وأنّ نزول الكتاب والميزان بمثابة المقدّمة لذلك ، يقول تعالى : (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ).
لقد اشير في هذه الآية إلى ثلاثة امور باعتبارها مقدّمة لإقامة العدل ، وهي «البيّنات» التي تعني الأدلّة كما لا يخفى ، والمشتملة على المعاجز والأدلّة العقليّة على أحقّية دعوة الأنبياء عليهمالسلام وأخبار السابقين منهم ، و «الكتاب» الذي يشير إلى الكتب السماوية التي تحتوي على بيان المعارف والعقائد والأحكام والأخلاق ، و «الميزان» الذي يعني القوانين المميّزة للخير من الشرّ والفضائل من الرذائل والحقّ من الباطل.
تمتّع أنبياء الله عليهمالسلام بهذه القوى الثلاث التي تمكّنهم من دفع البشريّة نحو إقرار العدالة ، والملفت للنظر هنا هو عدم نسبة إقامة العدالة إلى الأنبياء ، بل التصريح بأنّ المجتمعات