إنّهم اكتشفوا أنّ للإنسان شعوراً وإدراكاً وراء شعوره وإدراكه الظاهري ، أطلقوا عليه اسم الشعور الباطن أو الوجدان الخفي ، واعتبروا القسم الأعظم من شعور الإنسان كامناً فيه ، حتّى أنّهم شبّهوه أحياناً بالثلوج الطافية في مياه المحيطات ، والتي لا يخرج منها فوق الماء إلّا عشرها في حين تبقى تسعة أعشارها تحته.
لقد اعتبروا الوحي نوع «تجلّ للشعور الباطني» ، ونظراً لكون الأنبياء رجالاً يفوقون العادة ، فمن الطبيعي أن يتمتّعوا بشعور باطني أقوى ، وتجلّ يفوق العادة في أهميّته ، وهو نفس ما كان يطلق عليه القدماء اسم الوحي!
كما ذهب البعض أحياناً أكثر من هذا وقالوا : إنّ أفكار وعلوم ورغبات النبي ، تخلّق له إلهامات وتطلّ من خلال شعوره الباطني ووجدانه الخفي على تخيّله الرفيع! بل وتترك أثراً حتّى في نظراته فيرى الملك أمامه ويسمع كلامه (١)!
* * *
نقد وتحليل :
هذه الفرضية التي قال بها فريق من الفلاسفة المتقدّمين تماثل الاولى ، من حيث افتقارها للسند الكافي والدليل والشاهد ، ومصدرها هو نفس ما أشرنا إليه ، أي إنّهم يريدون قياس مسألة خارجة عن نطاق أفكارنا بعمقها ومحتواها بالمقاييس المتداولة ، ومن المسلّم أنّ هذا الأمر محال وغاية لا يبلغها مفكّر أبداً.
وحينما نذعن بمحدودية المعلومات دون المجهولات ، يجب أن نقبل هذه الحقيقة أيضاً وهي أنّ للأنبياء الواقعيين نوعاً من الإرتباط بعالم ما وراء الطبيعة ، لا يمكن شرحه وتفصيله بحواسنا الفعلية وإدراكاتنا الإعتيادية.
على أيّة حال فلهذه الفرضية جذور مشتركة مع نظرية الفلاسفة القدماء من جملتها :
١ ـ الوحي يمثل نوعاً من الإرتباط الخاص بعالم ما وراء الطبيعة ، غير مغاير للروابط الفكرية والعقلية لسائر الأفراد!
__________________
(١) الوحي المحمّدي ، الطبعة ٢ ، ص ٢٤.