نقيم صلاة الجماعة في المحيط على ظهر السفينة! والله يعلم ـ أنّه لم يكن بنا أن نقيم الصلاة لذاتها أكثر ممّا كان بنا حماسة دينية إزاء مبشر كان يقوم بمزاولة عمله على ظهر السفينة ، وحاول أن يزاول تبشيره معنا! ... وقد يسَّر لنا قائد السفينة ـ وكان انجليزياً ـ أن نقيم صلاتنا ، وسمح لبحارة السفينة وطهاتها وخدمتها ـ وكلهم نوبيون مسلمون ـ أن يصلي معنا من لا يكون في (الخدمة) وقت الصلاة! وقد فرحوا بهذا فرحاً شديداً ، إذ كانت المرة الاولى التي تقام فيها صلاة الجماعة على ظهر السفينة ... وقمت بخطبة الجمعة وإمامة الصلاة ، والركاب الأجانب معظمهم ـ متحلقون يرقبون صلاتنا ، وبعد الصلاة جاءنا كثيرون منهم يهنئوننا على نجاح (القدّاس)! فقد كان هذا أقصى ما يفهمونه من صلاتنا! ولكن سيدة من هذا الحشد ـ عرفنا فيما بعد أنّها يوغسلافية مسيحية هاربة من جحيم تيتو وشيوعيته! ـ كانت شديدة التأثر والانفعال تفيض عيناها بالدمع ولا تتمالك مشاعرها جاءت تشد على أيدينا بحرارة ، وتقول : ـ في انجليزية ضعيفة ـ أنّها لا تملك نفسها من التأثر العميق بصلاتنا هذه وما فيها من خشوع ونظام وروح! ... وليس هذا موضع الشاهد في القصة ... ولكن ذلك كان في قولها : أي لغة هذه التي يتحدث بها (قسيسكم)! فالمسكينة لا تتصور أن يقيم (الصلاة) إلّاقسيس ـ أو رجل دين ـ كما هو الحال عندها في مسيحية الكنيسة! وقد صححنا لها هذا الفهم! وأجبناها : فقالت : إنّ اللغة التي يتحدث بها ذات ايقاع موسيقي عجيب ، وإن كنت لم أفهم منها حرفاً ... ثم كانت المفاجأة الحقيقية لنا وهي تقول : ولكن هذا ليس الموضوع الذي أريد أن أسأل عنه ... إنّ الموضوع الذي لفت حسي ، هو أن (الإمام) كانت ترد في أثناء كلامه ـ بهذه اللغة الموسيقية ـ فقرات من نوع آخر غير بقية كلامه! نوع أكثر موسيقية وأعمق ايقاعاً ... هذه الفقرات الخاصة كانت تحدث فيَّ رعشة وقشعريرة! إنّها شيء آخر! كما لو كان الإمام ـ مملوءاً من روح القدس! حسب تعبيرها المستمد من مسيحيتها! وتفكرنا قليلاً ، ثم أدركنا أنّها تعني الآيات القرآنية التي وردت في أثناء خطبة الجمعة وفي أثناء الصلاة! وكانت ـ مع ذلك ـ مفاجأة لنا تدعو إلى الدهشة ، من سيدة لا تفهم مما نقول شيئاً (١)!
__________________
(١) تفسير في ظلال القرآن ، ج ٤ ، ص ٤٢٢.